فاطمة ناعوت
هذا الرجلُ العظيم لم يتوقّف يومًا عن محاربة القبح فى كل صوره. لهذا أسمّيه «المايسترو». فهو يحمل عصا رفيعة فى يمينه ليضربَ بها وجه القبح، ويضبطُ إيقاعَ الجمال فى الكون. فإن غاب الجمالُ برهةً؛ لاحقه وطارده حتى يقبض عليه، ويُعيده إلى عرشه. فإن راوغَ الجمالُ وفرَّ واختفى، دخل المايسترو إلى محرابه ليصنعه وينحته ويعيدُ تشكيله، ثم يقدّمه إلى الناس خالصًا نقيًّا من غير سوء. يقود المايسترو فريقَه بدقّة لا تسمحُ بالخطأ أو النشاز؛ ليقدّموا معًا معزوفاتٍ أخلاقيةً فائقة الجمال بالغة الإتقان. ثم يجعلنا نتورّط معه فى المعزوفة، بعدما تشتبكُ أفكارُه مع أفكارنا؛ فنخرج من بين يديه ليس كما دخلنا، ننشدُ البهجة والمتعة، بل مشغولون بكيف سنغيّر من أنفسنا ونعلو حتى ننجو بسفينة الوطن من السقوط.
مهمومٌ بظاهرة الانفلات الأخلاقى التى تفشّت فى المجتمع المصرى منذ عقود. يصوّب نحوها عصاه الموسيقية ليُعلّم القبحَ أن يغدو جميلا. فإن لم يرعوِ القبحُ، شحذَ المايسترو قوسَه وصوَّبَ نحو قلب القبح سهامَه مُحمّلةً بكامل غضبه الفنىّ الرفيع. وأبدًا لا تخطئ سهامُه هدفَها. تلك هى رسالةُ ذلك الرجل النبيل منذ أربعين عامًا وحتى اليوم والغد. لهذا وضع ابنى المهندس «مازن نبيل» صورتَه مع المايسترو على صفحته قائلا: (هذا هو الرجلُ الذى ربّى جيلنا على الأخلاق والقيم والمبادئ). وصدق نجلى الجميل. فهذا الرجل منشغلٌ بفكرة الجمال. الجمالُ هو طريدته التى يلاحقها ويحاول القبض عليها فى جميع أعماله المسرحية والسينمائية والتليفزيونية. عن الفنان الكبير مايسترو المسرح، محمد صبحى، أتحدّث.
فُجع المايسترو النبيلُ حين غدرته حبيبتُه، وغادرتْ هذا العالم. طافَ بها العالمَ أعوامًا طوالا كأنها الدهر، لينقذها من المرض الشرس لئلا يخطفها منه ومن طفليه. لكنها غابت. فبكى دموعًا مُرَّة لا تشبه دموعَه فى هاملت وأوديب وروميو. دموعَ الفقد والترمّل والثكل واليُتم. لأن حبيبته «نيڤين رامز» كانت له زوجةً وابنةً وأمًّا وزميلة دراسة وعمل، ورفيقة كفاح طويل. فى مراسم جنازها، شاهدتُ دموعَه الحقيقية لأول مرة. فكتبتُ قصيدة عنوانها: «دموع الفارس»، قلتُ فيها: (اِبكِ الآن يا حبيبى/ ومُعلّمى/ ما طابَ لك البكاءُ/ وما شاءَ لك الحَزَن/ فالفُرسانُ أيضًا يعرفون البكاءَ/…/ ثمّ كفكفِ الآنَ دمعَكَ/ وعُد إلينا فارسًا نبيلا/ عاشَ يُعلِّمُنا/ أن الفُرسانَ يبكون/ ولا ينكسرون).
ولم ينكسر الفارسُ. إنما حوّل حَزَنَه ودموعَه إلى فنٍّ رفيع. كان أحدثُها تلك المسرحية البديعة التى انتصر فيها للمرأة؛ ذلك الكائنُ الجميل الذى لا يعرفُ قدرَه إلا الفرسانُ النبلاء. على مسرحه المحترم فى مدينة «سما سنبل»، قدّم صبحى أحدث عروضه المسرحية: «أنا والنحلة والدبور»، مع مجموعة لامعة من نجوم المسرح الذين ينتخبهم صبحى بعين «الجواهرجي» الحذِر؛ الذى ينتخبُ من الجواهر أنقاها وأصقلَها وأثمنها. المسرحية من تأليف الكاتب «أيمن فتيحة»، وإخراج صبحى. وبطولة الجميلتان: سماح السعيد، وميرنا زكرى، والفنان الكبير عبدالرحيم حسن، والفنان حازم القاضى، والطفلان الرائعان: بيلار أحمد، وعبدالرحمن محمود.
وأنا أشاهدُ المسرحية الأسبوع الماضى، كانت تجلسُ إلى جوارى الفنانة الجميلة «نيڤين رامز»، زوجته الراحلة. لأول مرة لم تكن على خشبة المسرح إلى جوار زوجها ممثلةً أو مساعدة مخرج، بل كانت من الجمهور. التفتُّ إليها وقلتُ: (صبحى يُهديكِ هذه المسرحية يا نيڤين. فأنتِ لم ترحلى كما يظنُّ الناسُ. بل تعيشين فى قلبه وعقله وفنّه. صبحى يقول لكِ: نامى ملء جفونك وانعمى بفردوس السماء، فهو بخير ولن ينكسر مادُمتِ تعيشين فيه. يقدّم هذا العمل ليقول لكِ إنه يعرفُ كم ضحيتِ من أجله ومن أجل مريم وكريم. كم ساندتِه ليغدو على هذا المستوى الفنى الرفيع أستاذًا فى المسرح وفى الحياة. يحاربُ القبحَ لكيلا يخدشَ عينيك الجميلتين. يصنعُ الجمالَ ليهديه إلى أولادكما وأولادنا وأولاد مصر. ارقدى فى سلام أيتها الجميلة لأن حبيبك مازال يحيا ويتنفّسُ فنًّا). أنصتت نيڤين إلى كلماتى، وابتسمت وأومأت، ثم التفتت إلى زوجها على خشبة المسرح وقالت له: (عِشْ يا حبيبى ألفَ عام. لأن مصر تحتاجُ إليك).
تحية احترام للمصرى العظيم صاحب المسرح الرسولى الذى يُعلّمنا ما فاتنا أن نتعلّمه على مقاعد الدرس.
ودائمًا «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم