عاطف بشاي
غابوا عنا بعد أن ملأوا الحياة حولنا وهجًا وألقًا وإبداعًا وصخبًا وعنفوانًا.. وكان ثلاثتهم قد خرجوا من ترع النيل ومصارفها وطميها.. ومن رائحة الأرض وغيطان زهر القطن.. سنابل الرجاء فى وطن جديد يسوده العدل والرحمة والمساواة وبناء نهضة حقيقية لشعب عانى طويلًا من فساد حكم الملك وسيطرة الإقطاع والرأسمالية المستغلة الذين أجاعوه وأفقروه.. وكان ثلاثتهم فى رحلة عطائهم الطويلة والمثمرة سفراء هؤلاء الفقراء ومندوبيهم ولسان حالهم.
أتى اثنان منهم من صعيد مصر الجوانى والثالث من ريف الدقهلية ورحلوا تباعًا.
غاب نجم (3 ديسمبر 2013) مودعًا أصدقاء الفقر بعد أن صافحهم فردًا فردًا فى الأزقة والحوارى والمقاهى وبيوت الزلزال وحوش آدم وعشوائيات عزبة القرود وأرض اللواء وتقاسم معهم اللقمة وشاركهم العناء والغناء وشظف العيش فوضعوه فى حدقات العيون وأشعلوا بأشعاره الملتهبة الميادين والشوارع والجامعات.
أما «الأبنودى» الذى جاء من طين أرض الجنوب التى يعشقها ويحن إلى العودة إليها بمجرد رحيله عنها فهو يراها جميلة رغم أن بيوتها ووجوه بشرها بلون التراب لكنها لا ترتدى الأقنعة ولا تتلون مثل المدينة (بلدنا أحلى ما فيكى أن توبك هو نفسه) فقد استطاع أن يرسم صورة ملحمية للمواطن البسيط والمهمش وأن يحقق جماهيريته العريضة من الشعر بأبياته الصادقة النابضة بالحب الفياض الذى يمثل مشروعه وكل رحلته التى كرسها يخاطب الذين يشبهونه ويشبهون لون الأرض المصرية بكل عطائها الوفير وبكل جدبها فى الأوقات الصعبة.
أما «سيد حجاب» الذى تحل ذكرى رحيله هذه الأيام والمولود عام (1940) بالقرب من شاطئ بحيرة المنزله متأثراً بغناء الصيادين يشاركهم معاناتهم ويلتقط مفرداتهم اللغوية المغموسة فى قهر الزمان وعذاب الدهر وظلم السلاطين ويحولها إلى صيحات اعتراض حزينة ونغمات أسى مقيم بلسان حكيم وروح ثائر وضمير فيلسوف حائر بين اليأس والرجاء.. بين ماض تعس يقدم فيه البسطاء اعتذاراً عن وجودهم.. وغد يشى بأحلام محلقة بوعود أمل ومصالحة (من اختمار الحلم ييجى النهار / يعود غريب الدار لا أهل ولا سكن).
جاء «سيد حجاب» من ثنايا دفتر الحياة والموت ليلمس كبد الحقيقة.. يضع يده على مأساتنا الوجودية.. يفزعنا على مصيرنا.. مصير الزمن الملعون.. والدهر المأفون.. والأرض الجدباء.. والدنيا الضنينة.. والحلم المخنوق.. والأمل الضائع.. والحياة العبثية.. والموت المجهول (يا أمان الغربة ليلك بيحاصرنا / وفى صدمة المر طاوينا وعاصرنا / بس طول ما الحب بيرفرف علينا / الجدور حنمدها ونصنع مصيرنا).. ورغم أنه يتساءل فى استنكار وغضب واستنفار للبشر الذين يحبهم ويكتب لهم أشعاره وأغانيه التى تنعى زمن الحلم والبراءة (مين اللى قال مكتوب علينا الهوان / لا الدنيا سيرك ولا الزمان بهلوان) طالبًا منا أن نلملم جروحنا ونسير خطوة إلى الأمام.. ونحلم بعيون يقظة.. ولا ننام إلا بعد أن نقطف زهر أحلامنا (فكل ضيقة وبعدها وسعه / وهى دى الحقيقة بس منسية / وكلنا ولاد تسعة وبنسعى / ودى مش وسية / الناس سواسية).
إلا أنه يعود ليمزج بعبقرية كلمات الأمل المحفزة بعدم الجدوى الملغزة.. الحياة بتحدياتها ومعاركها المستعرة.. بأسى حقيقة الموت والفناء رغم محاولات الفرار من عبثيتها (لو مت على السرير / ابقوا احرقوا الجسد / وانطروا رمادى على البيوت / شوية لبيوت البلد / وشوية حطوهم فى إيد ولد / ولد أكون بوسته / ولا أعرفوش / ولو أموت قتيل / وأنا من فتحة الهويس بفوت ابقوا اعملوا من الدم حنا / وحنوا بيها كفوف عريس/ وهلال على مدنه / ونقرشوا بدمى / على حيطان بيت نوبى تحت النيل.. اسمى).
جاء «سيد حجاب» أيقونة البسطاء يبادلهم سخرية بسخرية وهو يعرف تمام المعرفة أن السخرية والتنكيت والتأليس والتلسين هى حزب الأغلبية المقهورة فى مواجهة القهر.. متنفسهم الحقيقى فى احتمال واقعهم المرير أنهم يسعون بالسخرية إلى التعبير عن الظلم الاجتماعى.. وعن إحباطاتهم وعذاباتهم.. وتنتقل سخرياتهم إلى الأوضاع السياسية التى يعاصرونها.. فقال قبل ثورة يناير ما يعبر عن نبوءة بها معارضة لقصيدة «شوقى» (سلوا قلبى): (سلوا قلبى وقولوا لى جوابا / لماذا حالنا أصبح هبابا / لقد ساد الفساد وساد فينا / فلم ينفع بوليس أو نيابة / وشاع الجهل حتى إن بعضنا / من العلماء لم يفتح كتابا / وكنا خير خلق الله فصرنا / فى ذيل القائمة وفى غاية الخيابة / قفلنا الباب.. أحبطنا الشباب / فأدمن أو تطرف أو تغابى / أرى أحلامنا طارت سرابا / أرى حياتنا أضحت خرابا / وصرنا نعبد الدولار حتى / نقول له أنت ماما وأنت بابا / وملياراتنا هربت سويسرا / ونشحت من الخواجات الديابة / ونهدى مصر حباً بالأغانى / فتملئنا أغانينا اغتراباً / وسيما الهلس تشبعنا عذابا / وتشبعنا جرائدنا اكتئابا/ زمان يطحن الناس الغلابة / ويحيا اللص محترمًا مهابا / فكن لصًا إذًا أو عش حمارًا / وكل مشًا إذًا أو كل كبابا).
Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم