بقلم: حامد الحمداني
على الرغم من تمتع القوى الديمقراطية والعلمانية والليبرالية بمستوى عالٍ نسبياً من الثقافة والوعي السياسي والاجتماعي، فقد منيت هذه القوى بخسارة كبرى في الانتخابات السابقة لأسباب وعوامل عديدة يأتي في مقدمتها التشتت، والأنانية، وحب الذات، وتغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي، حيث شهدنا أعداد كبيرة من القوائم المشاركة في تلك الانتخابات تحت شعار الديمقراطية . و كنا قد دعونا إلى قيام جبهة عريضة تضم سائر هذه القوى الديمقراطية واليسارية والعلمانية والليبرالية، الحزبية منها والمستقلة، لخوض تلك الانتخابات على أساس برنامج سياسي علماني يهدف إلى قيام نظام حكم ديمقراطي متحرر، يضمن الحقوق والحريات العامة للشعب بكل قومياته وأديانه وطوائفه، بما في ذلك تحقيق حل عادل للقضية الكردية على أساس الفيدرالية المحصنة بالديمقراطية والتي تحافظ على وحدة العراق شعباً ووطناً.
لكن المؤسف أن تلك القوى لم تكن في مستوى الأحداث، وأخذ بعضها الغرور، وظنت أنها قادرة على تحقيق نتائج باهرة في الانتخابات، وفضلت دخول الانتخابات بصورة منفردة في الوقت الذي تكتلت فيه معظم أحزاب الإسلام السياسي في قائمة واحدة، واستطاعت استغلال اسم المرجعية، واسم السيد علي السيستاني، واستغلت بشكل نشط الوضع الاجتماعي السائد والمتسم بالجهل والتخلف الذي كان نتاج نظام الفاشية والطغيان الصدامي. فقد جاءت نتائج الانتخابات مخيبة لآمال تلك القوى التي كنا نتوسم بها تحقيق أماني شعبنا في الديمقراطية، وتحقيق الحياة الحرة الكريمة للشعب، واكتسحت الأحزاب الإسلامية أكثر من نصف أعضاء الجمعية الوطنية، في حين لم تحصل القوى الديمقراطية واليسارية والعلمانية ما كانت تحلم به ولم نتل سوى الفتات إن صح القول.
وهكذا باتت القوى الإسلامية مهيمنة على لجنة إعداد الدستور الذي جاء من صلب قانون إدارة الدولة في المرحلة الانتقاليه الذي وضعه الحاكم الأمريكي بول بريمر مع العديد من الإضافات الطائفية والقومية التي فرضتها الأحزاب الدينية، والأحزاب القومية الكردية التي فضلت التحالف معها، مما يتعارض والتوجه الديمقراطي المنشود، وقد خرجت منه المرأة العراقية التي تمثل أكثر من نصف المجتمع العراقي الخاسر الأكبر بهذا الدستور، حيث أصبحت حقوق المرأة في الحرية والمساواة مع الرجل في خبر كان، وتم تجاوز قانون الأحوال المدنية الذي سنته حكومة الشهيد عبد الكريم قاسم، وعادوا بالمرأة القهقرة إلى الشريعة التي جاء بها الإسلام قبل 1400 عام . واليوم ، وفي ظل ظروف أمنية لا بأس بها نسبيا، وفي ظل هذا التفتت الذي تشهده أحزاب قوى الإسلام الطائفي، وهي اليوم تبذل أقصى جهودها لاستعادة ائتلافهم الممزق، وانكشاف الدور البائس الذي مارسته هذه الأحزاب خلال الفترة السابقة، والهبوط الشديد للدعم الذي تلقته في الانتخابات السابقة، وعزوف المواطنين عن تجديد ثقتهم بهذه الأحزاب وقياداتها التي استأثرت بالسلطة والثروة دون أن تقدم أي شئ لشعبها، كما أظهرت نتائج انتخابات مجالس المحافظات، فإن على القوى العلمانية واليسارية والليبرالية أن تتعلم من دروس الانتخابات السابقة، وإن تدرك أن أمامها فرصة لا تعوض لقلب موازين القوى في الانتخابات البرلمانية القادمة بعد خمسة أشهر إذا ما اتخذت قرارها، وبصورة عاجلة، لإقامة جبهة عريضة لهذه القوى ولسائر المستقلين الذين ينشدون قيام نظام حكم ديمقراطي حقيقي في البلاد.
لكننا، في الوقت الذي باتت الانتخابات البرلمانية على الأبواب، لم نشهد لغاية هذا اليوم مع الأسف أي تحرك من جانب القوى العلمانية واليسارية والليبرالية لمعالجة الخلل الذي أوصلها إلى تلك النتائج المحزنة في الانتخابات السابقة، والعمل على لملمة الصفوف، وتجميع كل القوى التي تناضل حقاً وصدقاً من أجل عراق ديمقراطي متحرر، في جبهة عريضة استعداداً لخوض الانتخابات القادمة، لكي تشكل في البرلمان الجديد قوة مؤثرة في تحديد مستقبل العراق. إن على هذه القوى أن تدرك مسؤوليتها تجاه مصير الشعب والوطن، فلم يعد هناك متسع من الوقت للانتظار، وأن استمرار الوضع على ما هو عليه الآن لا يعني إلا تهميش القوى العلمانية والديمقراطية، وإخراجها من الساحة التي ستخلو مرة أخرى لأحزاب الإسلام السياسي، لتمضي في تنفيذ أجندتها المرسومة سلفاً، ولإقامة دولة تتحكم فيها دكتاتورية دينية وطائفية لفترة زمنية قد تدوم عقوداً عديدة، مما يهدد في فقدان الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد، ونشوب الصراعات العرقية، والدينية، والطائفية، وحتى الحرب الأهلية.
إن هذه القوى مدعوة إلى المبادرة بأسرع وقت ممكن للدعوة لعقد مؤتمر يضم سائر هذه القوى بالإضافة على الشخصيات الوطنية المستقلة لتدارس أفضل الوسائل والسبل لاستنهاض همة الجماهير الشعبية الواسعة للتوجه للانتخابات القادمة مع الاتفاق على برنامج وطني سياسي واجتماعي واقتصادي واضح المعالم ، مع الاستعداد الكامل والثابت للالتزام به. وعلى هذه القوى أن تستثمر كل إمكانياتها في توجهها نحو أبناء شعبنا لإقناعه بأهمية التصويت للقوى الديمقراطية، وبشكل خاص التوجه نحو المرأة العراقية التي ستكون المستفيد الأكبر في قيام عراق ديمقراطي متحرر يحقق لها كل طموحاتها في الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة. كما أن على هذه القوى أن تتقدم بمرشحين مشهود لهم بالوطنية الصادقة، والتاريخ النضالي المشهود، والكفاءة التي تؤهلهم للقيام بهذه المهمة الخطيرة التي تتعلق بمستقبل البلاد ومصير الشعب، لا كما جرى ذلك في الانتخابات السابقة حيث كانت الأسماء المرشحة في معظمها غير معروفة لدى أبناء شعبنا، وهذه مسألة مهمة جداً وحساسة، ولا يمكن تجاوزها في موضوع الدعاية الانتخابية وكسب الجماهير. إن شعبنا ينتظر أن يشهد ميلاد الجبهة الديمقراطية العريضة التي يمكن أن تتقدم إليه ببرنامج عمل مستقبلي قادر على معالجة الوضع الأمني القلق فيه، وإعادة الأمن والسلام في ربوع البلاد، ووضع خطة علمية مدروسة بدقة لمعالجة مشكلة البطالة المستفحلة، وتوفير الخدمات العامة للشعب، وتهيئة الظروف اللازمة لجلب الاستثمارات العربية والأجنبية في مختلف المشاريع الصناعية والزراعية، وبشكل خاص في المشاريع النفطية من أجل تأمين الموارد المالية اللازمة لإعادة بناء البنية التحية للاقتصاد العراقي المهدم، والنهوض بالعراق في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية، وتأمين الحياة الحرة المرفهة للشعب بعد طول عناء .