بقلم: مينا نبيل فرنسيس


ذات يومٍ من أيام برد شتائه القارص، راح ذلك المكان المُحبب إلى قلبي، يُحدثني ويُذكِّرني بالأوقات التي قضيتها فيه وحيدًا باختياري، فلا أغلى ولا أثمن عِندي من تلك الأوقات التي أخلو فيها بنفسي مبتعدًا عن كل زحام يُحيط بي، وبنفسي من أحداث، وعمل، وعلاقات، وصراعات، فهي الأوقات التي أترك فيها ذهني لطبيعة الله الخلابة الساحرة؛ لتدور بينها وبين نفسي مبارة رائعة من الانسجام والتفاهم!!
 
ففي ذلك اليوم بالذات، وقفتُ.. وقفتُ لأستمع إلى سكان تلك اللوحة البديعة، فهم أصدقائي.. فالنيل بمداه الواسع البعيد صديق لرغبتي في الإبداع التي لا يحدها سور، ولا حدود، ولا واقع، ولا قيود، ولا زمان، ولا مكان، ولا ظروف. وها الهواء العليل أيضًا صديق لروحي التي تسعدها وتهدّيِها الموسيقى الروحية الهادئة الجميلة! وطيور السماء بانطلاقها أيضًا صديق لاشتياقاتي المنطلقة نحو الرب، وملكوته والحياة!
 
وعلى غير العادة، تركتُ نفسي لتلعب دور التلميذ الخاضع المشتاق للنصيحة والإرشاد بل والتذكير.. فسمعتهم تباعًا يُذكرونني بمرات كثيرة أمضيتها بين جنبات هذا المكان الرحبة.
 
 فهذي وقفتُ فيها أكتب وأعدِّد إحسانات الرب على حياتي، فكتبت في دقائق، أكثر من عشرة إحسانات في وقت كان الضيق يُلازمني، ولم أكن أتوقع سرد أكثر من اثنتين أو ثلاثة من أفضاله عليَّ، فتشجعتُ، وتذكرتُ، وفطنتُ لعشرات عشرات النعم، فباركتـُه!
 
وتلك مرة أخرى من مرات قضيت أغلبها سابحًا أفكر في الصفات التي أرجوها فيمن ستكون شريكتي، وذلك على وجه التحديد من أعوام أظنها خمسة، ولم تعدو المحبوبة في فكري حينها أكثر من كونها تلك الرفيقة الرقيقة التي أضع رأسي بين يديها حين أكون متعبًا. لم تكن أكثر من رغبتي في إنسانة تكون قصيدة راحة. من إنسانة أجد في قلبها وتصرفاتها ما يريحني ويعبر عن فهمها لقلبي، وعطائي، وإحساسي، وعقلي، وذهني، وخيالي، فهي التي تستوعب جيدًا طبيعة ذاك الذي يجمع في شخصيته نفس الفنان بمفرداتها الخاصة جدًا، وعقل من يهوى المنطق والقراءة والتأمل والتحليل! لم تكن أبعد من تلك التي تقدرني أكثر من كل الناس، وتعرف جدًا قيمتي لا لأني الأفضل، بل لأني هذا الشريك الذي كانت تتمناه، وايضًا أريدها الزوجة التي تسمع كلامي من منطلق اقتناع عقلها قبل قلبها بمحبتي وفكري، وأن تشعرني دائمًا بالقبول، والحنين إليَّ.
 
وهناك أيضًا أخذت قرارًا قبل أن افكر في كل تلك الصفات، وهو أن تكون حياتي من اللحظة التي أعثر فيها على هذي الشريكة، فقط من أجلها، ومن أجل راحتها وسعادتها؛ لأضع مفهومًا جديدًا للعملية في الحب، في زمن طغت فيها نغمة العملية المجردة من مضمونها ومفهومها الحقيقي على العلاقة ذات الروح الحياة، فقررت ألا أخطو خطوة واحدة نحوها إلا بعد أن اثبت لنفسي ألفًا من المرات أني بكل طاقة عطائي وبذلي أحبها هي.. هي فقط.. وكان القرار الأهم في حياتي إذ عشت فعلًا من تلك اللحظة فصاعدًا أعِّد نفسي!!
 
فكنت كلما اشتد هواء ذلك الشتاء البارد، أذكر جديدًا مما تاه عن روحي وسط ضوضاء حياتي، وتلاحق الظروف في الفترة الماضية!
 
فرحتُ أذكر حين وقفت أسبح ربي مرنمًا ترانيم جميلة أحببتها وغيرتني، وذاك حين مجَّدتُ ربي لما شفاتي من جروحي وأوجاعي غير المحتملة على رحيل أمي المفاجيء، فوضع عزاءً غريبًا بداخلي ملؤه كان السلام والراحة!
 
رحتُ أذكر أيضًا كم المرات التي نجوتُ فيها من حوادث كانت على وشك أن تقضي عليَّ..
رحتُ أذكر حين وقفتُ هنا حزينا لما عاينت الفشل للمرة الأولى بعد رسوبي في الجامعة..
والمرة التي وقفتُ فيها متحديًا الكل ضاربًا بخيالي في عمق الأحلام التي صممتُ أن أحولها بنعمة ربي لواقع ملموس من النجاح والتفوق والتميز..
رحتُ أذكر كم المرات التي أنشدتُ فيها قصائدي، أو أسمعتها لأصدقائي المقربين..
 
لحظات ثمينة قضيتها هنا على شط ذلك النيل، ولحظات أثمن تلك التي قضيتها منذ أيام أتذكر فيها علاقتي به؛ لأني خرجتُ منها أمجد ربي، وخرجت متجددة أحلامي واشتياقاتي، ونال قلبي قسطا لا بأس به، وإن لم يكن بعد المطلوب، من صفاء ذهني الذي افتقدته كثيرًا الوقت الماضي وأنا معذب..
 
فشكرًا جزيلًا لحضورك ايها الرب يا أبي، يا مَن تقودني وترشدني بمحبتك وفهمك لي لما يريح قلبي..
 أنا أحبك لأنك أحببتني قبلًا..
وهذا أنا
ابنك (مينا)