ألفى شند
أحدثت نظرية "التطور وأصل الانواع " ، التي قدمها تشارلز داروينCharles  Darwin) ) عالم التاريخ طبيعي والجيولوجيا ، والتى تقول  ان كل الكائنات الحية من  النباتات والحيوانات  من "أصل خلية  أميبية واحده ، تغيرت ونطورت  بطريقة طبيعية تدريجيا من اشكال كانت فى الماضى ابسط حتى وصلت الى ماهى عليه الان   ، بفعل عوامل عديدة منها :الانتخاب الطبيعى البقاء للاصلح  والاقوى ، والقدرة على التكيف مع البيئة المحيطة زلزال مازالت توابعه مستمرة حتى يومنا هذا .
 
لم يكن دارون"  ارون أول من تحدّث عن اتطور الكائنات الحية  ، بل سبقه الكثيرين ابتداء من فلاسفة الإغريق، حيث قال الفيلسوف "أنكسماندر (546 ق.م  -  60 بب.م) ان الحياة نشأت في البحار ثم انتقلت إلى الأرض، كذلك قدمت الفلسفة التاوية في الصين القديمة رؤية تقوم على عدم ثبات الأنواع وتكيفها مع البيئة .
 
وبعد نحو تسعة عشر قرنا تبلورت الفكرة الفلسفية الى نظرية علمية تستند على دلة وبراهين ، أمن بها  بها العالم واللاهوتى  "تيار دى شاردان " وتقبلتها الكتيسة الكاثوليكية بهد قرون من الومن  في اطار تفسير نشأةالحياة .
 
تيارد دى شاردان والتطور الطبيعى :
يعد الأب الراهب اليسوعى  تيارد دى شردان واحد من أعظم علماء القرن العشرين فى نظر جميع أهل الفكر من مؤمنين ومتشككين وملحدين على السواء . وأول من أوجد صيغة فكرية جديدة  مبينيه على العوامل المشتركة بين الدين والعلم ، ، وإزالة العداوة بين الدين والعلم  التي  شهتها القرون الوسطى ، وان مابين الدين والعلم تكامل لاتناقض . 
 
ولد تيارد دى شاردان  فى الأول من مايو  عام 1881 فى جنوب فرنسا وكان الرابع بين أحد عشر ولداً واكب على الدرس؛ وتم المرحلة  الثانوىة ، ولم يبلغ بعد الحادية عشرة من سنه ؛ وتفوق فى كل شئ باستثناء مادة الدين؛ وكان على شغف خاص بالجغرافية، ولكنه ، مع هذا كله ، كان يصر على أن يصبح كاهناً "لكى يعيد فرنسا إلى الله "، وانخرط فى سلك الرهبانية اليسوعية، ولكنه ما أن ابرز نذوره الأولى حتى تسلمت زمام الحكم فى فرنسا حكومة تعادى رجال الدين فأعلنت عليهم حرباً عنيفة، وأغلقت عدداً كبيراً من المدارس الكاثوليكية، فهرب تيارد مع اساتذته وزملائه، بملابس نسائيه، إلى جزيرة جرسى البريطانية حيث تابع دراسة الفلسفة، ولكن هناك كان ينازعه فى داخله اتجاهان عنيفان: فقد أخذ عن والده حب العلم، وتشرّب من والدته التقوى المسيحية، فاختلط عليه  الاختيار بين ان يكون رجلاً روحياً من جهة، وأن يحترف العلم من الجهة الأخرى، فافهمه مرشده الروحى أن بمقدوره  أن يكون عالماً وكاهناً معاً.
 
وقد اصدر تيارد نحو ثلاثين كتاباً، حيث يعتبر كتابه "ظاهرة الإنسان"في نقطة المركز منها، من دون أن يقل عنه أهمية كتابه الكبير الآخر"البيئة الإلهية" الذي كان هذا الأب المفكر قد وضعه في العام 1927.
 
 جاء تيارد إلى مصر قبل سيامته كاهنا، للتدريس لمدة ثلاثة سنوات فى مدرسة العائلة المقدسة بالقاهرة ؛ عاد بعدها إلى فرنسا لاستكمال دروسه اللاهوتية حتى تم رسامته كاهناً علم 1912، درس في السوربون 1919 لمدة ثلاثة سنوات ، نال شهادة الدكتوراه في العلوم الطبيعيّة، وعمل منذ العام 1920 أستاذًا في مادة علوم ما قبل التاريخ فى الكلية الكاثوليكية. ولما نشبت الحرب العالمية الأولى انخرط فى الشعبة الصحية من فرقة القناصة الرابعة المغربية، ونال عن بسالته، فى معركة فردان وسواها تقدير رؤسائه فى الجيش فكافأوه بوسام جوفة الشرف، وصليب الحرب والنوط العسكرى . 
 فى فترات الهدوء فى الجبهة ، كان يكب على التأليف، فكتب أهم مقالاته: " الحياة الكونية "، و" الأتحاد الخلاق "، و" المسيح فى المادة "، و" الكاهن "، و " عالمى "، و " الكون السرى ". وكان يرى الله لا مجرد خالق الكون بل باعث الحياة فيه، فهذه نقطة البداية التى تواصل العمل فى الكون، وكان يرى الكون والإنسانية فى تطور دائم نحو تعقد أعظم ووعى متزايد، وان هناك طريقة عامة للتطور أسماها " قانون زيادة التعقد "، وفى السنة 1923 قام الأب تيارد برحلات إلى الصين للتنقيب عن الحفريات فى الصين زهاء عشرين سنة . وفى عام 1928 انيطت به مسؤولية التنقيب الجيولوجى والحفريات غير البشرية ، فى بعثة دافيدسن بلاك ، فى منطقة " جاو كوتيان " حيث عثر على أول جمجمة لإنسان بكين ، ولما تحلى به من المواهب النادرة فى التحليل والتبسيط ذاع اسمه فى العالم كله، وساهم فى اندونيسيا ، فى التنقيب عن إنسان جاوا . ثم قصد إلى الهند وبورما مستشاراً للعالم دى تيرا؛ وإلى جنوب افريقيا لينظم برنامجاً للتنقيب عن " انسان الجنوب "، ومن بعد سافرإلى الولايات المتحدة ليقارن بين التركيب الجيولوجى لغرب امريكا وشرق آسيا . وبعد الحرب العالمية الثانية انصرف للأبحاث الأنتروبولجية مع معهد روكفورد والمتحف الأمريكى للتاريخ الطبيعى فى نيويورك .
 
وفى خلال هذه السنوات ، لم يسمح له بطبع شئ مما يكتب، قصد روما حيث مقر رئيس الرهبنة  يلتمس السماح بطبع كتابه " الظاهرة – الأنسان " قوبل بالرفض، فقال حين ذلك، والدمع يملاً عينيه " انهم لا يريدوننى أكتب !.. بل لا يريدون أن أفكر! " بيد أنه اناط ثقته بالله وكتب إلى الرئيس العام للرهبانية اليسوعية  قائلاً : " .... أنى اشعر الآن بأنى أوثق ارتباطاً من اى زمن آخر من حياتى بالمسيح والكنيسة ، ولم يسبق لى أن رأيت المسيح أكثر حقيقة وتجسداً ، واكثر سيادة على الوجود مما أراه الآن، إنى أقر تماماً بأن فكرتى عن المسيحية بشكلها الحإلى سابقة لأوانها، أو ناقصة ؛ وان نشرها فى الوقت الحاضر قد لا يكون مناسباً " . 
 
وقد كوفئت طاعته، فان رئيسه المباشر الأب جوف قد أشار عليه بتعيين قيم على كتاباته ليكفل لها النشر بعد وفاته، وفى الأحد ، عيد القيامة 10 من فبراير 1955، وبعد ما قدس قداسه وحضر القداس الحبرى فى كاتدرائية القديس بطرس، ذهب لحفلة فى دار البلدية بنيويورك . وفيما كان فيها بتناول الشاى مع نفر من اصدقائه سقط ميتاً بفعل نوبة قلبية فى العاشر من ابريل سنة 1955. وكان ذات مرة قد اعرب عن أمله " بان يذهب للقاء المسيح الناهض من القبر فى عيد القيامة" ، حيث كتب:"ربّي إنّي فتّشتُ عنك بكلّ ما فيّ من قوى، وبكلّ ما أعطتني الحياة من ظروف قاسية. لم أتوانَ أبداً عن التفتيش عنك، وعن وضعك في قلب المادّة الشاملة، وليكنْ لي الفرح في أن أغمض العين يوم النور الشفّاف الشامل، يوم يشعل كلّ شيء بشمول نارك  الّالهبة". ومن يمر بقبرة خارج مدينى نيويورك يقرأ هذه العبارة مقوشة عليه : " لجسدك ، يا سيدى يسوع ، فى أقصى امتداده ... وللعالم الذى اضحى ، بقدراتك وبإيمانى ، بوتقة حية مجيدة يذوب فيها كل شئ ليولد من جديد ، أكرس نفسى وجميع المواهب التى أسبتها على جاذبيتك الخلاقة ، ونصيبى الضئيل، من العلم، ونذورى الروحية، وكهنوتى " العزيز على " وأعمق نوازعى الإنسانية، فى هذا التكريس أحب، يا سيدى يسوع، أن أحيا، وفيه أموت ".
بعد وفاته لم يتوقف صراعه الفكرى مع الكنيسة .
 
ففي العام 1962، صدر عن مكتب الحبر الأعظم البابا يوحنا الثالث والعشرين يحذر مرةً أخرى من أفكار تيارد دى شاردان غير القويمة، يقول: إن بعض أعمال الأب بيير تيارد ده شاردان، وحتى منها تلك التي نشرت بعيد وفاته، قد طبعت وهي تلقى رواجًا لا يمكن الاستهانة به.
 
لذلك، وبغض النظر عن بعض جوانبها الإيجابية المتعلقة بالعلوم والفلسفة واللاهوت، فإنه من الواضح أن هذه الأعمال مليئة بملابسات مكررة وبأخطاء جدية مهينة للعقيدة الكاثوليكية. لذلك فإن آباء المجمع المقدس العائد للحبر الأعظم، يحثون جميع الأساقفة ورؤساء المعاهد الدينية، وعمداء المعاهد ورؤساء الجامعات، على الدفاع عن عقول البشر، وخاصةً منها عقول الشباب، من أخطار أعمال الأب تيارد ده شاردان وأتباعه.
 
بعد ذلك بفترة قصيرة وضح الكرسي الرسولي الحبر الأعظم أن التصريحات الأخيرة لأعضاء من الكنيسة، ولا سيما تلك التي ظهرت في الذكرى السنوية المئوية لولادة  تيارد ، تفسر على أنها تراجع عن المواقف السابقة التى جاءت فى .البيان الصادر عن المكتب الصحفي للكرسي الرسولي، ، فان البيان الصادر، 1962  لا يزال يمثل السياسة الرسمية للكنيسة حتى يومنا هذا.
 
لكن أثبتت الأيام صحة ماقاله تيارد دى شاردان لرئيسه العام فى الرهبنة اليسوعية " إن كتاباتى المسيحىة بشكلها الحالي سابقة لأوانها، أو ناقصة" . وبالفعل قرأت الكنسية الكاثوليكية كتاباته ، بعد المجمع الفاتيكانى الثانى (1962 – 1963) وانفتاحها على العالم المعاصر بعيون جديدة . ففى عام 1950 تحدث البابا بيوس الثانى عشر بحذر شديد عن عدم وجود تناقض بين نظرية التطور والإيمان ، وقد كان أول بابا يلمح إلى ذلك. وفى عام 1995 بنى البابا يوحنا بولس الثانى على رأى سلفه وبشكل واضح ومباشر فى بيان أرسله للأكاديمية البابوية للعلوم، قال فيه ان المعرفة الطبيعية تقودنا إلى الاعتراف بنظرية التطور على أنها اكثر من فرضية. واستخدم البابا يوحنا الثالث والعشرون فى رسالته العامة " السلام على الارض " قبسا من أفكاره ، كما برزت فى كثير من وثائق المجمع الفاتكانى الثانى . وفي عام 2009، اشاد البابا بنديكتوس السادس عشر بفكرة دي شاردان التي تعتبر الكون "المضيف الحي" . بل أعرب كبار اللاهوتيين عن تأثرهم بنظريات تيارد دى شردان، فكتاباته تقدم بصيرة جديدة للمسائل اللاهوتية والعلمية. 
افكاره :
 
أمن تيارد من خلال التأمل والبحث العلمى فى الحفريات بصحة للخطوط العامة حول نظرية التطور لعالم الطبيعة الإنجليزي تشارلز دارون وانه لايمكن فهم سر الإنسان والكون بمعزل عن تلك نظرية ، وقوله أن الله وضع الروح في المادة ، فاختبأت فيها، وحبلت بها بنوع ما، وان الوجود مقدس (كل ماخلقه الله حسنا) وان التطور  الذي قال به دارون لم يكن فوضويا وإنما مخططا ومقصودا بعيدا عن الصدفة، ويتضمن كل المادة ، لا المادة البيولوجية فحسب .
 
فالكون يخضع لمتغيرات متتالية أكثر تعقيدا من بداية النشأة إلى النهاية على غرار المسيح (الألف والياء) ،  مصدر الخليقة (به كان كلّ شيء) ومآلها (فيه اكتمال كلّ شيء). لأنّ الخليقة خرجت من الله وإليه تعود، كما يقول القدّيس بولس، إنّ المسيح سيجمع في ذاته كلّ الخليقة. 
 
وان الخليقة مرت بمراحل من التطور  من كائنات بسيطة إلى كائنات أكثر تعقيدا، من الطاقة إلى الحياة (من الجماد إلى النبات)، ومن الأحادي الحي إلى المتعدّد (من كائناتٍ أحاديّة الخليّة إلى المتعدّدة الخلايا)، ومن المتعدّد إلى المتخصّص، ومن المتخصّص إلى المعقّد، ومن المعقّد إلى المفكّر، وأنّ هناك تناسباً بين درجة تعقيد الكائن ودرجة وعيه، وكلّما ازداد جسم الكائن تعقيداً، ازدادات فيه درجة الوعي، وبعد أن يصل التطور إلى أقصى تعقيداته، وتبلغ الخليقة الكمال فى الوعى  سترتفع تلقائيا إلى رتبة المسيح ، وتتحد بالمسيح (المسيح الجماعي).
 
ويرى تيارد دى شاردان في سياق هذا المسار، كلّ كائنٍ يرفض التطوّر والتكيّف مع الأجواء المحيطة المتغيّرة ليتابع مسار الاكتمال ينقرض، هذه الفكرة هي واحدة من التي سببت له مشكلات مع كنيسة ذلك الزمان التي تفخر لكونها كاملة لا تحتاج إلى تطوّرٍ أو تغيير. ولم تتوقف أفكاره عند هذا الحد ، بل استدعت أفكار تيّار الكنيسة إعادة النظر في طريقة فهم أمورٍ إيمانيّة كثيرة منها: الخطيئة الأصليّة، دور الله في الخليقة، قصص الكتاب المقدّس، إلخ. 
 
مؤلفاته :
ترك الأب تيارد إرثا كبيرا من المؤلفات إلا أن معظمه لم ينشر بقرار من رؤساءه فى الرهبنة حتى لايثير أزمة مع الكنيسة بلغت نحو 507 عملا على شكل مقالة أو بحث أو قصة ،  من أهمها  واشهرها كتاب  "الانسان الظاهرة" الذى وضعه العام 1940، فى هذا الكتاب وضع تيارد خلاصة فكره الديني العميق، ولكن أيضاً خلاصة تبحّره في الكثير من العلوم ومن بينها الفيزياء والجيولوجيا، وعلم حفريات ما قبل التاريخ . في هذا الكتاب ينظر تيارد إلى الطبيعة بوصفها "حركة  تطورية، جرى نموها تبعاً لأربع مراحل أساسية". وهو يحدد لنا هذه المراحل، مطلقاً على أولها اسم "مرحلة ما قبل الحياة"... وفيها يفيدنا تيّار أن المادة، في مرحلة ما قبل الحياة، تطورت من حال لا انتظام لها، إلى شكل يعرف انتظاماً محدداً، وبعد ذلك، في المرحلة الثانية، يحل زمن الحياة، الذى تحولت فيه الكائنات من وجودها العشوائي إلى أنواع تزداد تركيبتها المعقدة أكثر وأكثر، وبعد ذلك يحل دور الإنسان، الذي يدخل عند ذاك مسرح الحياة والعالم وظهور الفكر... وتكون المرحلة الرابعة والأخيرة حين يعبر الوجود من مستوى البيوسفير منطقة أو حيّز الحياة غير المفكر إلى مستوى النوسفير منطقة أو حيّز الحياة المفكر، حين يؤكد الذكاء الخلاق للكائنات البشرية وجوده... وإذ تنجز هذه المراحل الأربعة، يقول لنا تيّار دي شاردان،  أن الكائنات تتطور لتتلاقى عند مستوى جديد، يطلق عليه اسم"البقاء" أو نقطة"أوميجا" التي تتوحّد فيها الكائنات جميعاً في سبيل الوصول إلى إنجاز الذات الأسمى فى المسيح الكونى . وكان تيارد قد أصدر قبل هذا الكتاب ، نحو ثلاثين كتاباً، لا تقل عنه أهمية ، خاصة  كتابه "البيئة الإلهية" الذي وضعه في العام 1927.
 
من مؤلفاته : الوسيط الإلهي - ظهور الإنسان - رؤيا الماضي - مستقبل الإنسانية - الطاقة الإنسانية - تنشيط الطاقة - موقع الإنسان في الطبيعة - العلم والمسيح كيف أؤمن - نشيد الكون - القداس فوق العالم - المجموعة الإنسانية الحيوانية، وقد بيع من كتابه هذا أكثر من 500 ألف نسخة منها وترجم إلى اكثر من 20 لغة.