د. محمود العلايلي
على الرغم من أن الشارع هو اللقاء غير الرسمى بين المواطن والدولة، إلا أنه لقاء مباشر يحدد مركز كل منهم ويعرف منه المواطن حدوده، كما تُظهر الدولة قدرتها على حفظ النظام، وفى أحيان أخرى سطوتها حين تحتاج أن تتدارك أى خرق للقانون أو تجاوز للمفروض.
ومن الملاحظ أن هذه الخروقات لا تقتصر على الشوارع الجانبية أو الطرق الخلفية، ولكن الجميع يشهد القانون وهو يُخترق بالوقوف وتعطيل الطريق على الطريق الدائرى وعلى مطالع ومنازل الكبارى الحيوية، ونشهد إشغال الطرق والأرصفة العامة من أصحاب المحال والمقاهى، أو مخالفات السرعة والسير عكس الاتجاه على الطرق السريعة أو الشوارع العمومية، بالإضافة إلى التهديد بالاصطدام من سائقى الميكروباص والتوك توك، أو من السيّاس الذين فرضوا سطوتهم على أصحاب السيارات، إلى جانب المتسولين الذين يمارسون الجباية على المارة بكل أنواع التحايل، هذا إلى جانب مخالفات البناء وإلقاء القمامة.
وإذا كان تعطيل الطريق وشغله أو تهديد المارة وقائدى السيارات يعد تأثيرا مباشرا، فإن التأثير غير المباشر لهذه الممارسات يعد أهم وأخطر كثيرا، فالمواطن الذى يرتكب هذه المخالفات دون حساب، يبدأ فى التعامل مع القانون كسردية فلكلورية يرددها فى جلسات الفخر بانتهاكه، بينما لا يرقى بداخله أن يمثل القانون أداة للدولة ممثلة فى سلطتها التنفيذية لفرض النظام عليه أو على غيره، أما باقى المواطنين، فالبعض يسايرون اختراق القانون، فيقودون عكس الاتجاه فى أماكن اعتياد ذلك، أو يصفّون سياراتهم فى أماكن عدم الانتظار، ويضطر البعض لركوب الميكروباص على مطلع الكوبرى، أو تعتاد العائلات إلقاء القمامة فوق ركام القمامة القائم أصلا، بينما ينزعج البعض الآخر من غياب القانون، ويتأكد لديهم الشعور بأن الحقوق فى بلادنا لا تُؤخذ إلا عنوة أو خلسة.
.. إن فرض سيطرة الدولة وسطوتها على الشارع له أثر كبير على إدراك عموم المواطنين، وبالتبعية على سلوكياتهم، فإذا رأى المواطن أن الدولة قادرة على ضبط الشارع وإحكامه، فسيفكر أكثر من مرة قبل أن يعطل مصالح شخص أو يطلب منه رشوة إن كان موظفا، وسوف يحسب لنفسه ألف حساب قبل أن يتهرب من الضرائب أو يتلاعب فى حساباته إن كان تاجرا، وسوف يتراجع عن التطاول على غيره بالقول أو بالفعل إن كان مؤذيًا، والأهم أن المواطن سيشعر بالأمان نتيجة تطبيق القانون الذى يؤدى إلى التنظيم الدقيق، فتزول المخاوف من أى تهديد بدنى أو معنوى لدى المواطن عند تعامله واحتكاكه بغيره من المواطنين، مما يبدل أغلب مشاعر التشكك والتوجس، ويشيع جوًا من الثقة فى الدولة ومؤسساتها.
ويعتبر بعض المحللين أن أغلب مرتكبى هذه المخالفات، وفى تعبير أدق الجرائم، من الطبقات التى تتراوح بين الفقيرة والمعدمة، والذين ليس لهم مورد سوى عملهم فى الشارع واتباع هذه الخروقات القانونية، ويمثل إيقاف هذه المخالفات أو تعديلها تأثيرا سلبيا مباشرا على موارد أرزاق هؤلاء المواطنين الذين اعتادوا المخالفة حتى صارت حقا مكتسبا، بل ويظن البعض أن محاولة فرض النظام بالحزم تجاه هذه الممارسات يمكن أن يؤدى إلى ردود أفعال عنيفة، مما قد يتسبب فى إشعال الشارع وإحالته إلى فوضى بدلا من ضبطه واستقراره، وهو ظن على غير الحقيقة، لأن مخترقى القانون نسبة ضئيلة من المواطنين الطبيعيين، كما أن هناك توافقا عاما بالرغبة فى الإصلاح والتأمين، بالإضافة إلى أن الأثر الذى سيخلفه تنظيم الشارع وضبطه أعم بكثير من المشكلات الوقتية التى سيختلقها المشاغبون وأعوانهم، لأن ضبط الشارع لا يعتبر من الأهمية من حيث التنظيم والاستقرار فقط، ولكنه شعور عام من المواطنين بحماية الدولة، وإحساس داخلى بهيبة الدولة وعدلها.
نقلا عن المصرى اليوم