ما أسهل أن تنتفض حكومتنا وتثير قضية مزمنة يعاني منها مجتمعنا متبنية الدعوة لسياسات إصلاحية لعلاج المعوج, ثم ما تلبث أن تهدأ وتترك القضية تفتر ويستمر الواقع المريض علي ما هو عليه… رأينا ذلك في قضية الميني فان- التوك توك وفي قضية إيجارات الأماكن غير السكنية القديمة, وفي قضية منع ذبح الدواجن في الأسواق… ويبدو أن الحكومة وهي تنتفض لإثارة تلك القضايا معربة عن عزمها اتخاذ ما يلزم من تشريعات أو إجراءات أو قرارات إصلاحية لا تكون قد درست الأمور من كافة جوانبها ولا استعدت للتعامل مع مقتضيات الإصلاح وتبعاته فتكون النتيجة تجميد القضية وتركها مسكوتا عنها!!
قضية اليوم التي نحملها معنا من منتصف العام الماضي إلي العام الجديد هي قضية النفايات البلاستيكية الناتجة عن شيوع استخدام البلاستيك في مجالات عديدة في بلادنا حتي يكاد يسيطر علي شتي أشكال التعبئة والتغليف… وبجانب غزو البلاستيك لمئات الآلاف من الصناعات ليوفر العبوات لها ويزيح جانبا العبوات الزجاجية أو المعدنية أو الخشبية أو الورقية تكمن الكارثة الكبري في اجتياحه لعالم الأكياس المستخدمة في تعبئة جميع المشتريات في السواد الأعظم من الأسواق والمتاجر والمحال… فبينما تخضع سائر العبوات غير البلاستيكية التي ذكرتها لمنظومة إعادة التدوير ولا تخلف نفايات تضر بالبيئة, تظل العبوات والأكياس البلاستيكية تشكل نفايات هائلة تستعصي علي إعادة التدوير وتترك ملقاة في مقالب القمامة تحيق أبلغ الضرر بالبيئة.
وأقول عن هذه القضية -التي تعود جذورها في مجتمعنا إلي ما لا يقل عن نصف قرن من الزمان- إننا نحملها معنا من منتصف العام الماضي إشارة إلي التوقيت الذي التفتت فيه حكومتنا إلي وطأتها المدمرة وأولتها اهتماما خاصا دعاها لأن تتقدم بمشروع قانون بشأنها إلي مجلس النواب يشرع للحد من استخدامات البلاستيك وينظم كيفية التخلص الآمن من نفاياته… ولعل صحوة حكومتنا لم تكن راجعة إلي مجرد فزعها من كابوس النفايات البلاستيكية في بلادنا, وإنما جاءت متزامنة مع صرخات وتحذيرات خطيرة حول العالم وتقارير ترصد مساحات هائلة من مياه البحار والمحيطات مغطاة بنفايات البلاستيك التي خرجت عن حدود السيطرة هائمة علي وجهها تتقاذفها الأمواج وتعبث بها تيارات المد والجذر… أما الجديد المرعب فكان ما ذكرته تلك الدراسات والتقارير عن الضرر الكارثي غير المتوقع, فبعكس الاعتقاد السائد أن نفايات البلاستيك خفيفة الوزن وتظل طافية علي سطح الماء تبين للباحثين أن التيارات البحرية تتسبب في تجمع وانضغاط أجزاء منها وتحولها إلي كتل ثقيلة تغرق نحو القاع حيث تلتهمها الأسماك الكبيرة والحيتان والكائنات البحرية فتؤدي إلي اختناقها ونفوقها في كارثة طبيعية وبيئية بجميع المقاييس.
إذا… كانت حكومتنا علي حق في أن تدق ناقوس الخطر وتطلب من البرلمان التصدي للقضية بتشريع يحد من الانسياق في استخدام منتجات البلاستيك وتطبيق سياسات لإعادة تدوير نفاياته… لكني وقتها بالرغم من تأييدي للدافع البيئي والحضاري الحتمي والملح لمجابهة تلك القضية تساءلت: ماذا نحن فاعلون بمنتجي البلاستيك؟ وكتبت: … من السهل إصدار تشريعات تحد من أو تمنع تداول العبوات والأكياس البلاستيكية بدعوي حماية البيئة والسيطرة علي أضرار نفاياتها, لكن ماذا نحن فاعلون في شأن صناعة ضخمة مستقرة توفر فرص عمل لملايين المصريين من سائر الكوادر المرتبطة بها والمرتزقة من ورائها بدءا بالمستثمرين ومرورا بالعاملين في مراحل التصميم والإعداد والإنتاج والتوزيع؟… هل لدينا رؤية جادة لكيفية اتباع سياسات تحويلية وتحفيزية نحو إعادة توطين تلك الصناعة وإعادة تأهيل وتسكين العاملين فيها في منتجات بديلة تسد حاجة السوق وتسهل إعادة تدويرها ولا تخلف أضرارا كارثية علي البيئة؟… هل نحن مدركون للآثار الجانبية التي تترتب علي تقليص إنتاج البلاستيك علي سوق الاستثمار وفرص العمل وكيفية علاج ذلك؟….
لست أدري إن كانت حكومتنا مدركة لكل ذلك وهي تنتفض لقضية البلاستيك وأضراره, لكني أعرف أن القضية غير مثارة في البرلمان, كما أعرف أن صناعة البلاستيك منتعشة ولم يقترب منها أحد, وأعرف أيضا أن سائر العبوات البلاستيكية ماتزال تشغل مساحة هائلة من السوق ومن علاقة المنتجين بالمستهلكين… وأن القلق علي أضرار البلاستيك والتلوث البيئي من جرائه قضية نحملها معنا من عام مضي إلي عام جديد.