بقلم: دولا أندراوس
ألم رهيب يعتصر كياني ويذيب أحشائي كما بنار. أتقلَّب على كل الأوضاع في الليل الممتد كما الدهر ملتمسة الراحة دون أن أجدها. وفي الليل تتضخم الأشياء وتتجسم الأفكار السوداء كحقائق ملموسة، وتتبدى الهواجس الطارئة وكأنها واقع ملح ليس منه مناص.. فأبيت ليلتي أصارع الألم والإرهاق، وأنشد خلاصًا من عذابي في بزوغ فجر رحيم يبث بنوره الضعيف بعض الطمأنينة إلى قلبي. ويطلع الصباح فيخفت صراخ الألم في خضم زخم الحياة وضجيجها.. وتلهيني المسؤوليات عن الشعور بالوجع إلى أن يجئ الليل مرة أخرى فيعاودني الألم من جديد، ناشبًا مخالبه بضراوة في أمعائي، ومستدعيًا إلى فكري كافة الهواجس التي تفزعني وتطير النوم من عيوني.
قضيت أيامًا على هذا الحال، يضنيني الألم ويقض القلق مضجعي، إلى أن بدأ مفعول الدواء يظهر وجاءت نتائج التحاليل المطمئنة لتطوي مؤقتًا صفحة أليمة من صفحات حياتي.. وخرجت من عند الطبيب لأستقبل الحياة مرة أخرى، وأودّع أوهامي إلى حين.
إحساس رائع انتابني حال خروجي من العيادة.. فلأول مرة منذ زمن أستنشق في الجو عبيرًا محببًا فيه عبق الحياة. كل شئ حولي اصطبغ بصبغة الحياة.. أطلت عليّ الأشجار بلون أكثر خضرة، وصافحت الشمس وجهي بضوء أكثر سطوعًا، وضج الناس من حولي بالحيوية والبشر؛ فطفقت أدندن في حبور: الحياة حلوة بس نفهمها.
ولكن، فجأة انتابت القلب غصة آلمتني حتي النخاع، وانفطر القلب كمدًا، انطفأت معه حماستي للحياة.. إذ تذكَّرت ما حدث في "بورسعيد" ليلة الأربعاء 1 فبراير، وكأنني شعرت بالذنب لتمتعي بالحياة في حين حُرم منها مئات الأطفال والشباب الذين لم يشبعوا بعد من الأيام ولا اكتملت بعد أحلامهم. وحوش آدمية استباحوا لأنفسهم الحق في تقرير المصائر وتحديد الخواتيم، فقرَّروا تنحية الله جانبًا ليقوموا هم بعمله.. ولم يشفع لهؤلاء الأبرياء صغر أعمارهم أو إخضرار تجاربهم فراحوا ضحية الغدر والأطماع.
رباه، أي زمن هذا الذي صرنا ننتمي إليه؟ زمن مقلوب، كل شيء يسير فيه بالعكس وكأننا نزلنا من بطون أمهاتنا بالأقدام أولاً ثم الرؤوس.. يذيقنا الموت قبل الحياة.. ويقذف في وجوهنا بالعقوبة قبل المحاكمة.. ويبتلينا بالتهمة أولاً ثم يدوخنا السبع دوخات لإثبات البراءة المستحيلة!!. زمن قادته طغاة مستبدون يرتكبون الجرائم على عينك يا تاجر، وبكل صفاقة، دون حتى أن يكبدوا أنفسهم مشقة التمثيل أو الإدعاء..
المضحك المبكي في الموضوع هو أن هؤلاء السفاحين لم يكتفوا بالقتل وسفك الدماء البريئة، وإنما أوغلوا في غيهم مستمرئين القيام بدور الله على الأرض؛ فخوَّلوا لأنفسهم الحق في تصنيف الأموات.. فمن نعتوهم بـ"الشهداء" مآلهم الجنة وحسن الختام، أما من وصموهم بـ"البلطجة" فلهؤلاء العذاب الأبدي وبئس المصير.
إن تلك الشراسة التي يتعامل بها العسكر مع الناس هي أكبر دليل على خوفهم وارتعابهم من قوة الشعب الجبارة. فمن الحقائق المعروفة في علم النفس أن الطاغية شخص جبان يحاول أن يغطي ضعفه بستار من القوة الوهمية فيتَّخذ العنف مظهرًا لإثبات قوته. ولذا فهو يهتاج ويتميز غيظًا إذا ما شعر بأن القناع الذي يتخفى ورائه على وشك السقوط، وأن حقيقته لن تلبث أن تنكشف أمام الناس، فيشتعل غضبه ويزداد عنفه.
وكلما ازداد عنف هؤلاء، كلما إشتد يقيني بأن هذا الوضع المعقَّد في طريقه إلى الحل. فإن إشتداد ضراوة الحرب هو نذير انتهائها، كما أن أحلك ساعات الليل هي أقربها إلى الفجر.. وكما قال الشاعر:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرجت وكنت أظنها لا تفرج
أهم شئ الآن هو ثبات المقاومة حتى لا تنتقل إلينا عدوى الزمان المقلوب فنخسر المعركة قبل حتى أن تبدأ.