عادل نعمان
حينما نقول إن للأحكام أعمارا وسنوات تعيشها وتحياها شابة يافعة، لا تتعداها طالما احتاجها الناس ووافقوها عن طيب خاطر، فإن هرمت وعجزت انصرفوا عنها أو لجأوا إلى غيرها، فيكون عمرها قد انقضى وولى، وليس لوجودها بينة أو برهان دون لزوم أو حاجة، ولا عذر لها أو مبرر أن يمتد بها العمر ويطول جبرا وقسرا دون وفاق، ونكون بهذا قد صدقنا على ديناميكية الحياة وتطورها، وعلى التفاعل الدائم بين الطبيعة والتاريخ والمعرفة مع مخلوقات الله جميعها، فليس منهم محبوس أو معزول عن الآخر، ومن عزل نفسه من المخلوقات هلك وانقرض، ومن حبس نفسه من العقلاء حتى داخل نص مقدس، فقد كتب على نفسه الجمود والثبات والعزلة، وحركة التاريخ تلزم الأحكام بالتحديث والتجديد، وهى ضرورة حتمية، وليس هذا موجه للدين فقط، أي دين، بل موجه أيضا إلى كافة النظريات العلمية والعلوم الإنسانية، والاستجابة لهذا التغيير والتعديل يرفع الحرج في كثير، بل ويسير الجميع بخطوات متوازنة ومتلازمة، فلا يتأخر أحدهم عن الآخر، ولا يتصادم أحدهم بالآخر، وهو في مصلحة الجميع.
على أن هناك ثلاثة أمور يستدعى فهمها جيدا، الأمر الأول: أن العرب الأوائل لم يكن لديهم سوى الإسلام يقدمونه للعالم، ولا كتابا ومنهجا وعلما سوى القرآن وفروعه، واقتصر عليه العلم الدنيوى فقط، بل وفرضوه على الناس فرضا، دون تفاعل أو ترابط مع غيره من الكتب، ودون سواه، وإزاحوا ما كان غيره بالقوة دون مناقشة أو جدال، ولأنهم أهل عصبية، وتاريخ ممتد من البداوة والجهل، فقد عزلوا أنفسهم عن المدنيّة والحضارة، واكتفوا بالقرآن ملاذا وحاميا وحاويا، حتى ما وصلهم من علوم وكتب وفلسفات رفضوها وخربوها، وقد كان من الأجدى لهم دراستها ونقلها، دون كلفة أو عناء أو جهد، وكانت رسائل الخليفة عمر دليلنا على ذلك «إذا كانت هذه الكتب لا تحتوى على شى غير المسطور في القرآن فهى كعدمها، وإذا كانت هذه الكتب تنافى ما جاء بالقرآن فهى ضارة ومؤذية لا يجب حفظها عن المقريزى وحريق مكتبة الإسكندرية، ورسالة الخليفة عمر إلى وإليه عمرو بن العاص، وأكد هذا بن خلدون، وغيرهما، وكذا في بلاد فارس «أن اطرحها في الماء، فإن كان ما فيها هدى؟ فقد هدانا الله تعالى بأهدى منه، وإن يكن ضلالا؟ فقد كفانا الله تعالى» كتاب كشف الظنون عن رسالة الخليفة عمر إلى سعد بن أبى وقاص وحرق مكتبة الفرس، ولم يقبل العرب علوما أخرى غير القرآن في بداياته.
والأمر الثانى: قد كان لزاما أن يكون النص وافيا ومهيمنا وشاملا، ويشبع حاجات الأسلاف، من النشوة الروحية، والمطامع البشرية، والإجابة الشافية على كل الظواهر الطبيعية والإنسانية، ويجد حلا لكل ما يستجد على الناس من معضلات وأمراض ومحن وكروب، وأن يقف بجوارهم في كل أمر من أمور الحياة مع المظلوم والمقهور والمغلوب والمريض والناجح والفاشل، فاستنبطوا أحكاما وقواعد وشرائع وأعراف وأغراض ومقاصد، وتصنعوا وتكلفوا، وحملوه من المعانى والتأويلات ما لم يكن يقصدها أو يستهدفها، حتى يستوفى الأمور كلها، ويحيط بعقول وقلوب وضمائر الناس ما وسعت وسمحت في ذلك قيمهم الإنسانية، وكذلك أطماعهم السياسية والدنيوية، فصاحبنا مهضوم الحق هذا قد وجد ضالته في تجاوز الظالم في ظلمه حتى يتضاعف عذابه يوم الفصل، فركن لهذا وخاب، حتى أموال المسلمين كانت حق الله عند الخلفاء والأمراء والملوك، فوقف الناس على أبوابهم يسألون مما أعطاهم الله من فضله، فأجادوا فنون التسول والشحاذة والسلب والنهب، وكانت الأسلاب والغنائم والسبايا وحقوق الناس شرعا من حق المستلب والباغى، وفى هذا يقول الدكتور طه حسين «هم مسلمون لم يظهروا على العالم إلا بالإسلام، فهم محتاجون إلى أن يعتزوا بهذا الإسلام، ويرضوه ويجدوا في اتصالهم به ما يضمن لهم هذا الظهور وهذا السلطان الذي يحرصون عليه، وهم في الوقت نفسه أهل عصبية وأصحاب مطامع ومنافع، فهم مضطرون إلى أن يراعوا هذه العصبية، ويلائموا بينها وبين منافعهم ومطامعهم ودينهم، إذن فكل حركة من حركاتهم وكل مظهر من مظاهر حياتهم متأثر بالدين ومتأثر بالسياسة».
الأمر الثالث: أن ما صاحب الناس من علو الشأن، وما استجد عليهم من رفعة القيم والمثل، َوما أصابوا من ثورات التحرر والحرية، فقد أصبح ما كان مقبولا كله، بعضه قد صار غريبا وعجيبا ومرفوضا ومتعارضا، والبعض الآخر مازال قادرا على لى عنق الزمان والمكان ليستمر بعضا من الوقت إلى حين، يتعحبه البعض ويتقبله الآخر، بفعل الحنين إلى الماضى، وليس بمباركة العقل. إلى الأسبوع المقبل.
نقلا عن المصري اليوم