الأنبا شنودة، الإخوان والسلف * عريب الرنتاوي
مات الأنبا شنودة، باب العرب والأقباط المسيحيين، وترك مصر في لحظة مفصلية في تاريخها الحديث...وأحسب أن رجلاً بوزنه، سيُخلّف فراغاً يصعب ملؤه، أو على الأقل يصعب ملؤه بسرعة واقتدار.
للرجل مواقف تاريخية يجب أن تُحفظ له...اشتبك مع السادات في ذروة هجوم الأول المهرول نحو “السلام” مع إسرائيل وسعيه المحموم للاستفراد بالسلطة، وتعرض للنفي والإقامة الجبرية...قاوم التطبيع و”أفتى” بعدم جواز زيارة المواقع المسيحية المقدسة، طالما ظلت رازحة تحت نير الاحتلال البغيض....كانت له مواقف مؤيدة لنضال الشعب الفلسطيني ومتضامنة معه...والأهم من كل هذا وذاك، فقد كان الرجل، بشخصه وموقعه، واحداً من أهم “صمامات الأمان” بالنسبة للوحدة الوطنية في مصر، بين المسلمين والمسيحيين، فالرجل كان من دعاة العيش والتعايش، ومن أنصار الحوار والتسامح والتثاقف بين مختلف المكونات المصرية.
لم يكن من أوائل الذين دعموا الثورة المصرية ضد نظام الفساد والاستبداد الذي مثّله الرئيس المخلوع وعائلته وأركان نظامه...ويسجّل عليه، أنه كان وثيق الصلة بالنظام البائد، شأنه في ذلك شأن مشيخة الأزهر، أو أقل قليلاً...ولكن يُسجل للرجل أنه لم يكن آخر من التحق بركب الثورة والثوار، مع أن مسيحيي مصر، ذاقوا الأمرين من بعض “قوى الشارع” و”المجلس العسكري” سواء بسواء.
في علاقاته مع قوى التغيير في مصر، يروى أن آخر لقاء أجراه قبل أن يدخل في “غيبوبة الرحيل الأخير”، جمعه مع المرشد العام للإخوان المسلمين محمد بديع، الذي بادر إلى تقديم التعازي لأقباط مصر برحيل رمزهم الأول وزعيم كنيستهم...وحسناً فعل رئيس مجلس الشعب المصري (الإخواني) الدكتور سعد الكتاتني إذ أبّن الراحل من على منصة المجلس، وبكلمات طيبة، من شأنها أن تسهم في تمتين وحدة الشعب المصري الوطنية، في وجه عاتيات الفرقة والفتنة والتقسيم، وأن تبدد بعض المواقف وتجسر بعض الفجوات.
لكن مواقف مؤسفة صدرت عن بعض رموز ونواب وأركان التيار السلفي، منهم من رفض تأبين الراحل أو الوقوف دقيقة صمت وحداد على روحه...منهم من عدّه كافراً و”مأواه جهنم”...إلى غير ما هنالك من خطاب تكفيري تفتيتي مثير لشتى صنوف الفتن...خطاب هجين على تاريخ الشعب المصري وروحه وثقافته وعيشه المشترك...ولقد تناولت مواقع التواصل الاجتماعي عبارات الاستهجان لهذه المواقف، وقارنتها بمواقف سيدات مصريات محجبات، حرصن على تقديم الماء البارد، لجموع المصريين الأقباط التي أمّت الكنيسة لتقديم العزاء وإلقاء نظرة الوداع الأخيرة، لبابا الإسكندرية و بطريرك الكرازة المرقسية.
والمؤسف حقاً أن سلوك هذه الجماعات المصاحب لحادثة وفاة الأنبا شنودة، تزامن مع صدور فتوى إشكالية من المملكة العربية السعودية، حيث أفتى رئيس هيئة كبار العلماء ورئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ومفتي عام السعودية عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ “بوجوب هدم جميع الكنائس في شبه الجزيرة العربية”. واعتبر الشيخ الذي يمثل المرجعية الأكبر في المملكة أن شبه الجزيرة تخضع لدين الإسلام فقط، ووجود الكنائس في بعض الدول منها هو اعتراف بصحة هذه الأديان ؟!.
وجاءت آخر فتاوى الشيخ في سياق رده على منظمة مجتمع مدني كويتية اعترضت كما تقول الأنباء، على الدستور الكويتي الجديد الذي أقر أعضاء البرلمان مادة فيه، تحظر بناء كنائس جديدة في الكويت، الأمر الذي أثار موجة استياء عالية ليس في أوساط المسيحيين العرب والأجانب في شبه الجزيرة خاصة في السعودية، اليمن، عُمان والكويت والعالم العربي، بل ولدى قطاعات واسعة من المسلمين العرب كذلك، خصوصاً في الدول والمجتمعات التي خبرت التعايش الإسلامي المسيحي لعقود وقرون خلت، كمصر ولبنان والعراق وفلسطين على سبيل المثال.
ثم يحدثونك عن الفتنة ومن أين تأتي ومن أيقظها ونفخ في جمر رمادها...ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها، إن تعرض مسجد للاعتداء، أو صدر قانون يمنع استخدام مكبرات الصوت في المساجد، أو يحد من ارتفاع المآذن في فضاء مدن أوروبية...لا أدري كيف يعطي هؤلاء أنفسهم الحق، في منح وحجب صكوك الغفران وبراءات الذمة...لا أدري بأي حق يمارس هؤلاء هواية تصنيف المواطنين إلى درجات...لا أدري كيف يمكن للربيع العربي أن يظل مورقاً بوجود مثل هذه التيارات في مواقع السلطة والقرار في دولنا ومجتمعاتنا.
في أوروبا مئات المساجد، وفي الولايات المتحدة أكثر من 2200 مسجد...ومع ذلك ما زلنا نجأر بالشكوى والمظلمات من الاستبداد والعنصرية واستهداف المسلمين، نحن الذين ضاقت صدورنا ببضع كنائس في جزيرة العرب، ولم نحتمل الوقوف دقيقة صمت وحداد، على روح رمز وطني وديني بحجم الأنبا شنودة...أي مشروع هذا، وإلى أين يريدون أخذنا؟!.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :