عبد المنعم سعيد
صافحت الدكتور مجدى يعقوب مرتين: الأولى كانت فى ١٨ يناير ٢٠١١ فى مناسبة تقليده وسام «قلادة النيل» أعلى وأرفع الأوسمة المصرية. كان من سنن الرئيس حسنى مبارك الحميدة أن الوسام الذى كان تكريما لرؤساء الدول أصبح أيضا تكريما للمصريين الذين أحرزوا مكانة عالمية، ومن ثم رصعت «الجائزة» أعناق من حازوا جائزة نوبل كالروائى العالمى نجيب محفوظ، والعالم الكيميائى أحمد زويل، ومدير المنظمة الدولية للحد من التسلح النووى محمد البرادعى. ولكن ذلك لم يقتصر على أقران نوبل، بل امتد إلى من قدموا خدمات كبرى للإنسانية: الأمين العام للأمم المتحدة د. بطرس غالى، وطبيب القلوب السير د. مجدى يعقوب. وهكذا كنت من حضور قصر الاتحادية عندما جرى التكريم لواحد من أهم أبناء مصر البررة فى عصرنا. فى أعقاب التكريم كان هناك حفل استقبال وهنا جرت المصافحة التى تسمح بكلمات قليلة من الفخر والتقدير، وقلت: لقد أطلت أعناقنا جميعا. كان وراء الحديث ذلك الشوق المصرى فى عصرنا لكى يكون هناك اعتراف بالقدرات الكامنة فى الإنسان المصرى، وعندما يصير واحد منا هو أحد أهم أطباء القلب فى العالم، ويحصل على لقب «سير» من ملكة بريطانيا، فلا بد أن هناك فى المصريين من يستطيع تحقيق مراتب عالمية فى العقل والجودة والأداء. وعادة فإن السؤال يكون إذا كان ذلك كذلك فلماذا حالنا كذلك!. كانت المرة الثانية بعد تسع سنوات حافلة بالأحداث، فقد قامت «الثورة» أو «العملية» بعد أسبوع من هذا اللقاء فى يناير ٢٠١١، ومن ساعتها دخلت مصر فى مرحلة أخرى من تاريخها لا زالت معنا بحلوها ومرها أيضا، ولم يكن اللقاء لا فى قصر رئاسى ولا فى حشد من كبار رجال الدولة، ولا فى حضور رئيس، كان فى مؤسسة مجدى يعقوب ومركز أسوان لعلاج القلوب.
.. المكان كله لا يوجد فيه ما يبهر، اللهم إلا إذا كان الإنسان من الفهم أن التواضع الكبير هو ما يسم المكان، ولكنه التواضع الذى يخفى كما هائلا من الطاقة البشرية، وهذه الحزمة- التواضع والطاقة الهائلة- هى ما يميز العظماء.
قبل نصف قرن تقريبا بدأت رحلتى مع السفر إلى الخارج، وكما هى العادة مع الأكاديميين فكان التجول فى أنحاء المطارات هو النظر فى مكتباتها، ولسنوات فإن اسمين فقط من المصريين هما اللذان وجدت اسميهما على الكتب: أستاذ العمارة الأشهر فى التاريخ المصرى د. حسن فتحى، والمصنفة عالميا من قبل مجلة «التايم» كواحدة من أهم رواد الحركة النسائية فى العالم فوضعتها على غلافها د. نوال السعداوى. لم أكن أعرف أيا منهما اللهم إلا من أحاديث الخال عبد البديع عبد الرحمن الذى كان واحدا من مريدى الأول؛ أما الثانية فكانت من أكثر من ألهب عقول جيلنا لأبعاد القضية النسائية فى مصر والعالم. وفى أحد أيام الثمانينيات من القرن الماضى قال لى د. عصام جلال فى إطار العمل فى منظمة «باجواش» الدولية التى أسسها الفيلسوف برتراند راسل و١٤ من أهم علماء الذرة فى العالم، وكان أول المصريين عضوا فى مجلس أمنائها، إن الناس فى مصر لا يعرفون أهمية المصرى إلا عندما يرد اسمه باللغة الإنجليزية على غلاف كتاب أو مقال أو حتى إشارة أسفل صفحة. ومن هذه الزاوية كان الاكتشاف المصرى للعظيم مجدى يعقوب عندما ذاع ذكره فى الأوساط البريطانية، وفى اللحظة التى جرى تكريمه «فارسًا» بدا الأمر وكأن المصريين قد انتصروا أخيرا على الإمبراطورية البريطانية فى عقر دارها. ولكن هذا الإحساس بالنصر لم يكن حال الرجل فهو لا يخوض معاركه لإحياء القلوب وكأنها معركة حربية يخوضها من أجل فخر أو وسام، وإنما هى معركة من أجل حياة إنسان هو رسول الله فى الأرض. ولسبب غير معروف لى فإن للقلب فى الإنسان مكانة خاصة ما بين أعضاء الجسد، بيولوجيا فهو المسؤول عن تدفق الدم إلى بقية الجسد، ولكنه نفسيا وعاطفيا هو الذى يحمل الحب والكراهية. وفيما أظن فإن معركة مجدى يعقوب تجرى من أجل أن يكون الحب هو الأكثر ذيوعا بين البشر.
المصنع الأكبر للحب يجرى فى أسوان عندما تنظر إلى البشر الذين يأتون بحثا عن علاج قلب، وعندما قال لى إن السبعينيات الآن فى ظل العلم هى منتصف العمر وسن للشباب صدقته، ولم لا إنها معركة أخرى لا أكثر ولا أقل. ما أسعد القلب ساعتها وبعدها، أن التجربة هناك للتواضع والطاقة تقوم على إنشاء مؤسسة حديثة عندما تكون الحداثة ليست فى المبنى، ولا فى الرخام اللامع، ولا فى الكثير من المذهبات التى تزخر بها عمارتنا «الحديثة»، وإنما فى البشر، ولأول مرة أرى فى مستشفى مصرى جمعا عظيما من قدرات الأطباء تتواكب مع طاقات شابة ولامعة، ورشيقة أيضا، فى التمريض، مع خبرات فى التحليل الطبى يجمع بين المعرفة والتعامل مع أحدث ما عرفه العالم من التكنولوجيا الطبية وأكثرها سرعة. لم تكن هدية مجدى يعقوب لمصر مركزا طبيا فقط، ويعالج مجانيا فحسب، وإنما كان إنتاج أجيال جديدة من أطباء القلب، وإعطاء فرصة عظيمة لخريجى وخريجات كليات ومعاهد التمريض فى مصر لكى يعملوا فى مهنة لا تقل شرفا وحرفية عن مهنة الطبيب. بشرى للمصريين إنه صار الآن فى مصر مهنة حقيقية للتمريض فيها الكثير من العزة والاعتداد بالنفس، ومن خبرة شخصية فى مصر والخارج تضارع أعلى المستويات العالمية. قال لى صديقى د. مجدى إسحق، رفيق درب مجدى يعقوب، إن مركز أسوان نجح فى تخريج ١٢٠ طبيبا تتلمذوا على يد العظيم، وأنه الآن بدأ المرحلة الثانية فى تخريج دفعات جديدة تخدم مصر والعالم العربى وفى المستشفى الجديد فى مدينة السادس من أكتوبر. د. أحمد الجندى مع كثيرين من جيله هو «براند» مجدى يعقوب فى هذا الجيل حيث المهنية الرفيعة، والذكاء الحاد، والتواضع الجم. مستشفى مجدى يعقوب القادم هو مشروعه الجديد، وعندما سألت د. مجدى إسحق لماذا لم تقبلوا هدية الدولة بالأرض المجانية أو بحق الانتفاع، قال لى إن الدولة لديها ما يكفيها، والمصريون لم يقصروا فى تقديم العون الذى يبقى هو الأكثر والأغزر من كل أنواع التبرعات الأخرى. د. مجدى يعقوب يريد للمستشفى أن يكون صناعة مصرية خالصة لكل ما هو عظيم فى مصر؛ تم شراء الأرض، وبدأت عملية البناء من التصميم إلى المبنى إلى علاج قلوب المصريين من كل مرض. آمين.
نقلا عن المصرى اليوم