فاروق عطية,
لم يحترف يعقوب المصري مهنة الكتابة في الدواوين كباقي عظماء القبط، فقد كان صاحب املاك بجانب امتهانة للتجارة.
عندما أتت الحملة الفرنسية إلى مصر تداخل معهم وتعلم لغتهم قدرما استطاع. عندما حدثت ثورة المصريين الثانية ضد الفرنسيين، اتفق مع القائد الفرنسي كليبر علي تكوين جيشا مصريا من أقباطها المسيحيين.
جمع من الصعيد حوالي ألفي شاب من الأقوياء القادرين على حمل السلاح وألحقهم بالجيش الفرنسي للتدريب العسكري، وعند انتهاء التدريب بنجاح سلحهم بالبنادق والزخيرة على نفقته الخاصة، كما تعلّم هو التكتيكات العسكرية ورأس فريقه كقائد لهم وبني قلعة ناحية الجامع الأحمر بالأزبكية سُميت بقلعة يعقوب وظلت آثارها باقية حتى أيام الخديوى إسماعيل باشا.
حسب عادة أهل القرى تزوج من ابنة عمه وأنجب منها ولداً ولكن ما لبث أن مات أبنه ولحقت به أمه فى وباء الطاعون الذى كان كثيراً ما ينتشر فى مصر. سار يعقوب علي نهج مخالف لما كان عليه أبناء جنسه من الهدوء والسكينة والصبر والاحتمال وفداء أرواحهم وأعراضهم ببذل المال والعطايا وسار في طريق التحدي والمبادرة، كما خالفهم في الزي والحركات، واتخذ لنفسه خليلة من غير القبطيات (أشورية من حلب) بطريقة غير شرعية بعد أن ظل وفيا لذكري زوجته 12 عاما، فلم يرض عنه رجال الدين وعلى رأسهم البطريرك الذين كانوا غير موافقين عن مسلكه وتوجهاته وممارساته. نصحه البطريرك عدة مرات بالعدول عن هذه الخطة وأن يحذو حذو باقي أقرانه فلم يقبل النصيحة.
قال الجبرتي: "ما اعتقده البطريرك مخالفا وحسبه تهورا وخروجا عن الجد كان سببا في حفظ حياته وحياة الكثيرين من الأقباط لاسيما سكان الأزبكية، حينما اختل النظام عند استعداد الفرنسيين للجلاء ودخول عساكر العثامنيين وتحريض ناصيف باشا قائدهم المسلمين على قتل النصارى. هاج العامة على النصاري وصاروا يقتلون كل من يصادفونه منهم، وذهبت طائفة إلى حارات النصارى وبيوتهم بناحية بين الصورين وباب الشعرية وجهة الموسكي وكانوا يكسرون الدور ويقتلون من يصادفونه من الرجال والنساء والصبيان وينهبون ويأسرون، وتجاوز اهل الفساد الحد حتي خربوا ونهبوا بيوت ومحلات التجار المسلمين وتعدوا ايضا على كرامة علمائهم ومشايخهم واهانوهم إهانات من المخجل ذكرها. وقتلوا أيضا النصارى في بولاق ونهبوا بيوتهم، ولم ينج من أيديهن في هذه الفتنة غير الذين تسلقوا السور وفروا إلى معسكر الفرنساويين والذين افتدوا أنفسهم بالمال، أما سكان الأزبكية فأن يعقوب حنا أخذ على عهدته حماية تلك الجهة والمدافعة عنها مستعينا بعساكره الأقباط حاملي السلاح متحصنا بقلعته، وهدم بعض الدور التي بآخر شارع القبيلة من جهة قنطرة الدكة وجعلها حصنا وأقام بها العساكر المستعدة الموزعة على نقاط مختلفة. وكان المحارب الواقف أمامه رجل يسمى حسن بك الجداوي الذي كان يهجم على تلك الجهة المرة بعد المرة فيصده يعقوب ويدفعه عنها فيعود خاسرا واستمر على تلك الحال إلى أن انتهت الفتنة وخرج العساكر العثمانيين من القاهرة مرغمين لقوة مدافع الفرنسيين ونيرانهم. وهكذا نجا النصاري سكان الأزبكية من الخطر الذي كان محدقا بهم لاسيما البطركخانة فإنها كانت مطمع أنظار أهل الفساد.
ولد يعقوب حنا بمدينة ملوي بمحافظة المنيا عام 1745م لأسرة قبطية متوسطة الحال، تعلم بأحد الكتاتيب القبطية التي التحق بها القراءة والكتابة والحساب بالأضافة إلى المواد الدينية. عمل لدى سليمان بك أغا رئيس الأنكشارية وكان من كبار أغنياء المماليك وتكونت لدى يعقوب ثروة كبيرة من عمله لديه. وعندما جاءت قوات حسن باشا قبطان إلى مصر عام 1786م للقضاء علي مراد بك وابراهيم بك لتثبيت دعائم الحكم العثماني بمصر شارك المعلم يعقوب في قتالهم بصفوف المماليك لأنه كان مديناً لهم بالفضل، مما جعله يتقن فنون القتال والفروسية.
عندما أتت الحملة الفرنسية إلى مصر كان يعقوب في الثالثة والخمسين من عمره وقد تكونت لديه ثروة طائلة، وكان الفرنسيين يريدون تثبيت حكمهم وإدارتهم لمصر وكانوا يواجهون صعابا في تحقيق ذلك، فلم يكن هناك بيانات تسجل إيرادات ومصروفات البلاد والضرائب التي يجب فرضها على الشعب فاستعان نابليون ببعض المسيحيين الذين كانوا مشهورين في ذلك الوقت كصيارفة وجباة للأموال، فعين نابليون المعلم جرجس الجوهرى ليكون مسئولا عن تنظيم الموارد المالية للحكومة، واستعان المعلم جرجس بالمعلم يعقوب بعد أن عرض يعقوب عليه خدماته وزكّاه عند الجنرال ديزيه الذي استعان به في حملته التي قام بها لإخضاع الصعيد ومطاردة جيش مراد بك حيث كانت لدى يعقوب خبرة بطرق الصعيد وأوضاعه المالية والإدارية كما قام يعقوب بتجهيز ما يلزم الحملة وتأمين مواصلاتها وأيضا المشاركة في القتال بهذه الحملة، وكانت لديه معرفة بطريقة تفكير المماليك لعمله معهم فترة طويلة واشتراكه في الحروب بصفوفهم.
قاد المعلم يعقوب فصيلة من الجيش الفرنسي المكلف بهذه الحملة ضد قوة مملوكية في أسيوط واستطاع أن يحقق الانتصار ويهزم المماليك، مما دفع ديزيه إلى أن يقدم له تذكاراً عبارة عن سيفٍ منقوش على مقبضه: معركة عين القوصية 24 ديسمبر 1798م. كتب الجنرال جاك فرانسوا مينو إلى بونابرت رسالة يقول فيها : "إنى وجدت رجلا ذا دراية ومعرفة واسعة اسمه المعلم يعقوب وهو الذي يؤدى لنا خدمات باهرة منها تعزيز قوة الجيش الفرنسي بجنود إضافية من القبط لمساعدتنا ". عاد يعقوب إلى القاهرة بعد حملة الصعيد وقد قامت ثورة القاهرة الأولى، وحول داره إلى ما يشبه القلعة العسكرية، وجعل لها بوابةً محصنة يقف عليها الحرس المسلحون ليلاً ونهاراً، وتوافق ذلك مع شروع نابليون في بناء عدة قلاعٍ حول القاهرة، بحيث تحيط مدافعه بالقاهرة كلها، واعتبرت قلعة المعلم يعقوب واحدةً من قلاع الفرنسيين في القاهرة.
قام يعقوب بتقديم خدمات كثيرة لمساعدة كليبر لقمع ثورة القاهرة الثانية، كان حينئذ من ضباط ديزيه فكافأه كليبر بأن وكله بجمع الأموال العامة من الشعب كيف يشاء، فلم يتوان يعقوب في القيام بمهامه خير قيام، كل هذا جعل ليعقوب حظوة كبيرة لدى الفرنسيين وتمسكا به، فتعاظمت ثروته وازداد نفوذه. كتب الجنرال بليار نائب الجنرال مينو في مذكراته عن يعقوب "ومع انه كان يعمل لحسابنا فهو لم ينس مصالحه الخاصة". منح الجنرال كليبر يعقوب رتبة كولونيل فى مايو 1800م وجعله على رأس فرقة عسكرية من شباب المسيحيين تم تدريبهم على أيدى ضباط فرنسيين وتولى يعقوب على نفقته الخاصة تزويدهم بالسلاح والعتاد اللازم لهذه الفرقة، ويرى بعض المؤرخين ان فكرة هذه الفرقة ترجع إلى المعلم يعقوب بينما يرى أغلبيتهم انها راجعة إلى الجنرال كليبر الذي كون كذلك فرقة من اليونانين بعد ثورة القاهرة الأولى كانت متمركزة بجزيرة الروضة، وكانت هذه الفرق على كل حال تصب في مصلحة الأحتلال الفرنسي الذي كان يتبع سياسة ضم الأقليات اليه وتشجيعهم وشراءهم بالمال. استمر يعقوب في تقديم خدماته للأحتلال الفرنسي بعد اغتيال كليبر وتعيين الجنرال جاك مينو فكافأه مينو بأن منحه رتبة جنرال (سارى عسكر) فى مارس 1801م.
مع نهاية الحملة الفرنسية على مصر وزحف الجيش العثماني نحو القاهرة والجيش الأنجليزى نحو رشيد أصبح جيش الجنرال مينو محاصرا في الاسكندرية مما اضطره إلى التفاوض مع العثمانين والأنجليز وعقد معاهدة للجلاء عن مصر 27 يونيه 1801م، عزم الجنرال يعقوب على السفر إلى فرنسا فجمع متاعه وأهله وعسكره وخرج إلى الروضة ليكون مع من قرروا المغادرة مع الحملة إلى فرنسا، وغادر القاهرة على متن السفينة الأنجليزية بالاس في 10 اغسطس 1801م. وقبل وصول السفينة إلى فرنسا أصيب يعقوب بالحمّى و اشتد عليه المرض ومات في عرض البحر في 16 أغسطس 1801م وحسبما ذكر الجبرتي في تاريخه والدكتور الصاوي في كتابه كانت آخر كلمات يعقوب وهو يحتضر للجنرال بليار أن يُدفن مع صديقه ديزيه فى قبر واحد. ولم يلقي قبطان السفينة بجثة يعقوب إلى البحر كالمعتاد، بل استمع إلى رجاء مرافقيه فاحتفظ بالجثة فى برميل من الخمر حتى وصلت السفينة إلى مارسيليا وهناك أقيمت له جنازة عسكريه فى 18 اكتوبر 1801م وتم دفنه ليُسدل الستار على الفصل الأخير في حياة المعلم يعقوب.
البقية في العدد القادم