بقلم – روماني صبري
لطالما برع الأديب الروسي "فيودور دوستويفسكي" في النبش داخل النفس البشرية، وترجمة الألم النفسي والعاطفي والمسببات التي تصيب الإنسان بمرض اضطراب الشخصية من خلال رواياته، ما جعل مؤلفاته محل اهتمام سيجموند فرويد، رائد التحليل النفسي، الذي اعتمد في دراساته على معاناة أبطال رواياته، كذلك اعتبره كل من الألماني فريدريك نيتشه، والأديب المصري الكبير نجيب محفوظ، عرابهم في الأدب، إلى جانب العديد من أدباء العالم الذين رأوا فيه أديبا استثنائيا من المستحيل أن تعرف الأرض مثله، حسنا لماذا لازال الرجل يتمتع بكل هذا القدر من الاحترام حتى يومنا هذا ؟! .. الإجابة لان أعمال دوستويفسكي تلمس كل البشر وستظل وليست على مقتصرة على فئة دون أخرى، وفي رأي هذا هو الأدب الحقيقي.
يقول الرجل الذي سجنه دوستويفسكي في غرفته عبر روايته "في قبوي" والذي احتقر نفسه حتى اعتبر نفسه مثل الصراصير والفئران يعيش بقبو :" أنا رجل مريض... أنا إنسان خبيث.. لست أملك شيئا مما يجذب أو يفتن، أحسب أنني أعاني مرضا في الكبد، على أنني لا أفهم من مرضي شيئا على الإطلاق ولا أعرف على وجه الدقة أين وجعي وأنا لا أداوي نفسي، ولا داويت نفسي في يوم من الأيام، رغم أنني أحترم الطب والأطباء، وأني من جهة أخرى أؤمن بالخرافات إلى أقصى حد، أو قولوا إنني أؤمن بها إلى الحد الذي يكفي لاحترام الطب ...إنني أملك من الثقافة ما يكفي لأن لا أكون من المؤمنين بالخرافات، ولكني أؤمن بها مع ذلك.... لا، لا! لئن كنت لا أداوي نفسي، أن مرد ذلك إلى خبث وشر لا شك أنكم لا تتنازلون إلى حيث تفهمون هذا، ولكني أنا أفهمه، لم أستطع أن أصبح أي شيء، لم أستطع أن أصبح حتى شريرا ولا خبيثا ولا طيبا، ولا دنيئا ولا شريفا، لا بطلا، ولا حشرة، وأنا اليوم في هذا الركن الصغير، أختم حياتي، محاولا أن أواسي نفسي بعزاء لا طائل فيه، قائلا أن الرجل الذكي لا يفلح قط في أن يصبح شيئا، وأن الغبي وحده يصل إلى ذلك، إن الناس يزدهون بأمراضهم؛ وأنا أزدهي بأمراضي أكثر من أي إنسان آخر، أعترف بذلك، على أنني مقتنع اقتناعا جازما بأن "زيادة الوعي ليس وحدها مرضا، بل بان كل وعي مرض"، كنت أتساءل في بعض الأحيان: لماذا أنا الشخص الوحيد الذي يتخيل أن الناس ينظرون إليه نظرة فيها نفور وكراهية؟ .. كلا أنا لا افتخر بمرضي، ربما قلت ذلك، لكن في الحقيقة ليس في نفسي شيئا من خبث أو شرا، حتى غضبي لا وجود له، وإنني لا أزيد على التلذذ إلا بترويع عصافير، فقط قدموا لي فنجان من الشاي بالسكر أو لعبة وقتها سيتوارى غضبي، وربما اقضم أصابعي حنقا! .. كان أحد الموظفين قبيح الوجه والبشرة، وكأنه لص من قطاع الطرق، فلو كان وجهي دميما دمامة وجهه إذن لما تجرأت حتى على أن أظهر للناس، وكانت بزة موظف ثان من الموظفين تبلغ من الاتساخ أن المرء يشعر برائحتها الكريهة متى كان على مقربة منه. ومع ذلك لم يكن يبدو على أحد من هؤلاء السادة أنه يشعر بخجل لا من وجهه ولا من بزته ولا من طبعه. كانوا لا يتخيلون أن من الممكن أن ينظر إليهم أحد نظرة فيها اشمئزاز، وهبهم تخيلوا ذلك، فإنهم لا يأبهون له ولا يكترثون به، إن "الحب إنما يعني في نظري الاستبداد والتسلط الروحي". إنني لم أستطع في يوم من الأيام أن أتخيل الحب في صورة غير هذه الصورة، وقد بلغت من ذلك أنني ما زلت حتى الآن أرى في بعض الأحيان أن قوام الحب هو أن يهب المحبوب للمحب حق الاستبداد به. إنني في أحلام قبوي لم أستطع في يوم من الأيام أن أتخيل الحب إلا في صورة صراع.. "صراع يبدأ بكره وينتهي بعبودية روحية."
ربما تشير ثرثرة الرجل إلى انه يعاني مرضا نفسيا خطيرا، فهو تارة يقول انه رجل خبيثا وشريرا لا يعرف كيف يكون رائق المزاج، وتارة أخرى يقول انه ليس كذلك ويعاني الضعف الإنساني!، ثم يعود يهزأ نفسه، ولكن لماذا وصل هذا الرجل الشاب إلى ما وصل إليه وحيدا في غرفته يعانى الوحشة والألم والمرض إلى جانب اعتزاله الحياة كونه كره البشر وكره نفسه؟.. حين يسرد بطل القبو حكايته عبر الورق كونه أنسانا بالغ الثقافة متقد الذكاء، يكشف لنا انه عانى مرارة اليتم والفقر، وكيف حاول معالجة ذلك بأن يعيش حياة طبيعية، فيرتاد صالة بلياردو ويحلم بشجار أحدهم حتى يشعر بقيمة نفسه، وأنه ملفت للنظر وليس قبيحا كما يرى نفسه، ولكن لسوء حظه يوقفه ضابطا لبث صامتا وهو يدفعه كأنه يعامل ذبابه أو حشرة، فيطفح داخله الحزن ويستفحل، وحين يقرر ممارسة الجنس في أحدى بيوت الدعارة يتعرف على "ليزا" فتاة مسكينة أجبرتها الظروف على امتهان هذه المهنة، فيرى فيها نفسه البائسة، فينصحها بالصوم عن هذا المكان، كونهم يستعبدون جسدها من اجل متعة السكارى، فيقترح عليها أن تطلب من عشقيها أن يتزوجها، فيجيبها على الفور :" وقتها سيبصق على وجهك."
لا ينفك أبطال دوستويفسكي عن الإيمان وممارسة الخطايا، فبطل القبو يحاول أن يستجيب لرغبته الجنسية خارج الزواج حتى يؤكد لنفسه أنه شخص طبيعي مثله مثل الآخرين ، فيعترف للفتاة انه قدم إلى هذا المكان دون إجبار من أحد لكنه حين يغادره ينفض عنه هذا الوحل، عكسها هي التي اشتريت جسدا وروحا داخل مكان قذر من اجل القليل من النقود، إذا هو يرى نفسه مجرما اقترف خطأ، كذلك ليزا مبررين ذلك لما تكبدوه كونهم ولدوا دون إرادة ولم يختارا ظروفهم، فينصح الفتاة :" ابتعدي عن هنا رغم إننا تضاجعنا أصحاب هذا المكان حفنة من القذارة كذلك الرجال عبيد الجنس أنهم يسخرون منك من اجل المتعة، أنهم قذارة وجبن وحقارة سوف تفقدين هنا كل شيء صحتك وجمالك وجسدك."
فيكشف لها عن حبه للأطفال، كونه حلم بالزواج منها رغم انه في الوقت نفسه يرفض الزواج من فتاة كانت تعمل في الدعارة "ازدواجية الإنسان"، فيقول لها :" أتحبين الأطفال ياليزا ؟ ..أنا أعبدهم عبادة، ... تصوري وليدا بلون الورد يرضع من ثدي ... أي زوج لا يذوب قلبه حنانا حين يرى امرأته تحتضن ابنه بذراعيها ؟ ... طفل صغير بلون الورد ، أبيض الجسم ، يتمطى ، يبتسم ، يلعب ، قدمان صغيرتان.. يدان صغيرتان يبدو منذ الآن إنهما تفهمان كل شيء، وهو إذ يرضع يربت على ثديك و يعبث و يشدك حتى إذا اقترب الأب انقلب إلى وراء ، و نظر إلى أبيه و أخذ يضحك ... آه يا له من منظر مضحك ! ثم يعود الصغير إلى ثدي أمه و يستأنف الرضاعة ، و سوف يعض الثدي مرة أخرى حين تنبت أسنانه ، و سوف يرشق أمه في الوقت نفسه بنظرة ماكرة فكأنه يقول لها : هل أحسست ؟ لقد عضضتك !.. أليست هذه السعادة ... أليست هي السعادة الكاملة أن يكونوا جميعهم معا ... الأم و الأب و الطفل ؟ ..إن الإنسان يمكن أن يغفر أموراً كثيرة في سبيل هذه اللحظات .. أَتعلمين يا ليزا ، أَن الإنسان قد يعذب الإنسان لمجرد أنه يحبه ؟ ... لم أدرك أنها كانت تخفي عواطفها تجاهي وتخشى ما تضمره من عواطف كان يكفي أن ألاحظ كل شيء."
تبدي ليزا إعجابها ورضاها الشديدان ببطل القبو في قرارة نفسها ، إذ شعرت كم يتمتع هذا الرجل بنبل وكرامة وإيمان وثقافة عالية فبات يجيد الخطب التي تعتمد على الوعظ والإرشاد هو الذي استند في ذلك إلى الشعر التقليدي الشعبي الروسي الذي أحبه وأكن لأصحابه الاحترام حتى يومنا هذا ، ولأنها كحال غالبية "الفتيات الخجلات" راحت ترد عليه بقليل الكلام، ثم حكت له كم عاشت الجحيم بسبب أسرتها، مشيرة له بكل بوضوح أنها أجبرت على امتهان هذا العمل القذر، كونها لم تجد الرعاية من الأسرة، حيث لم تجد والدها يربت على كتفيها ذات يوما، وصف الفتاة بالخجلة لا يرمي إلى التهويل، كونها تعمل بالدعارة ومن يعملن مثلها في هذا المجال يكن فتيات جريئات لعوبات.. في الحقيقة تعمد "دوستويفسكي" أن تظهر ليزا بكل هذا الخجل والضعف والعفوية والجمال والبراءة ، وليس في الأمر من معادلة صعبة على أي حال، كون دوافع قهرية كثيرة تقف وراء عملها هذا، ويتطرق دوستويفسكي هنا إلى ضرورة التفرقة بين الإنسان وعمله، فليست بالضرورة أن تعكس الوظيفة المرموقة أن الشخص طيب السريرة صافي النفس مرتاح البال، فتاة مثل ليزا ماذا بوسعها أن تفعل حين ترى القدر بعث إليها بهذا الرجل الغريب الشجاع الذي رأت الخوف يطفح على وجهه خوفا عليها فراح يعظها حتى ينتشلها من هذا المستنقع؟، ألن تحلم بالزواج منه لاسيما حين حدثها عن الأطفال وكم من الجميل أن يتزوج الرجل من امرأة أحبها فيعيشا سعيدان وينجبان ؟ .
ينتقد بطل القبو نفسه على طريقته الوعظية التي لم يكلل لها النجاح مع ليزا التي تقرر الهروب منه على الرغم من أنها أحبته حبا جما، هو الذي تعمد أهانتها وإذلالها، كونه لم يجد سواها يفرغ فيه غضبه كونها رأت منزله والقحط والفقر الشديدان اللذان يغلبان عليه، فيتعمد إذلال نفسه فيما ومعاقبتها فيسمي الجزء الثاني من قصته "بمناسبة الثلج الذائب" اقتباسا من قصيدة الشاعر الروسي الشهير "نكراسوف " التي كتبها عام 1846 " فيقول :"
حين استطاعت حرارة كلماتي المؤثرة
أن تنتشل من هوة الضلال المظلمة
نفسك التي سقطت إلي هاوية عميقة
و حين زخرت نفسك بالآم حادة،
فلعنت الرذيلة التي فتنتك في الماضي
و تلويت لوعة و أسفا و حسرة،
حين عاقبت ضميرك،
و قصصت علي كل ما جري قبلي
و تنكرت لحياتك السالفة
ثم دفنت وجهك في يديك،
و امتلأ قلبك هولا و خزيا،
فأخذت تبكين علي حين فجأة
هذا بيتي ادخليه سيدة لي،
ثم نعيش سعيدان
تمتع دوستويفسكي بعبقرية شديدة كان متقد الذكاء حقا، ربما كان يفكر في كل ما يراه منذ كان صغيرا يعاني التجارب، فبرع في التوغل داخل النفس البشرية، فرجل القبو اختصارا وترجمة وتحليل للمعاناة البشرية ونرجسيتها وضعفها، لكم تتمتع هذه الرواية بعبقرية في الصياغة والحبكة، ولكم سبقت علماء النفس في ترجمة ما أسموه فيما بعد "الألم النفسي- الجسدي"، المرتبط بتأنيب الضمير والوقوع في نوبات الاكتئاب... حين يقرر الإنسان تعذيب نفسه متلذذا، فتعرفه الأمراض، رغم إيمانه الشديد بأنه لم يخير قبل ولادته، حين يستقيل إنسان من عمله رغم عدم بلوغه سن المعاش كونه لازال شابا معتمدا على مبلغا صغيرا ورثه ، ليتجنب نظرات إخوته في البشرية !.