الكاتب
جديد الموقع
الأكثر قراءة
- مؤسس وكالة أنباء مسيحي الشرق الأوسط لوطن ف المهجر: ننافس وكالات الانباء العالمية ولانبث أخبار دينية وإتهامنا بالطائفية "علي حذائي"
- مصر وطن يعيش فينا لا وطن نعيش فيه
- إلهى عمت صباحًا
- نفوق المواشي وخطر الحمى القلاعية يهدِّد الثروة الحيوانية بـ"السويس"
- "صباحى" بكنيسة "العذراء" بحلوان: إذا أخذنا من الإسلام العدل ومن المسيحية المحبة سنبني بهما نهضه مصر
سعد القرش وكتابه "الثورة الآن "
بقلم: أحمد الخميسي
تقرأ كتاب سعد القرش " الثورة الآن " خطفا ، ليس بمعنى التصفح أو التسرع ، لكن لهاثا وراء السطور والصفحات والحقائق التي تشكل جدارية ممتعة يرسمها أديب أولا ، ثم صحفي هو سعد القرش ، جدارية حية تتلون أمام عينيك نابضة بالتفاصيل التي أحاطت بثورة 28 يناير ، مقتطفات من المقالات التي كتبت قبل الثورة مباشرة دفاعا عن مبارك، وأخرى لنفس كاتبي المقالات الأولى يمجدون فيها الثورة ، التصريحات السياسية ، المواقف المعلنة والسرية للتيارات والأحزاب، وضع السلطة المأزوم ، ومواقف الدول الأجنبية أمريكا وإسرائيل وغيرها ، الحركة في الشوارع ، التحرير ، طلعت حرب ، ميدان مصطفى كامل ، البشر الذين ينزفون بالشوق إلي الفجر ، يتحركون أمامك ، يلتقون ، ويتواعدون ، ساعات حظر التجول ، والتجول رغم ساعات الحظر ، الشعارات التي لاتخلو من الطابع الساخر العميق للشعب المصري حين يهتف " دلعه يا دلعه .. مبارك شعبه خلعه " أو " مبارك مضر بالصحة ويسبب الوفاة " ! ومع أن سعد القرش يسجل على غلاف كتابه " يوميات من ميدان التحرير " إلا أنه ما من يوميات بالمعنى المعروف ، بل كل ما أحاط بالثورة في لحظة الإندلاع ، القلق ، والإعلام المزيف ، والأدباء ، والقصائد ، ولحظات المرارة . لقد وثق سعد القرش كل كلمة أدرجها في كتابه ، لكن الأهم كان ذلك " التوثيق الروحي " إن جاز التعبير للاندفاع والأمل الكبيرين ، لتلك اللهفة الأشبه بالشهقة إلي الوطن ، لهفة إنسان حرم طويلا من محبوبته ولم يعد بينه وبينها سوى سور ضعيف يهدمه فيجد معشوقته بين ذراعيه.
كتاب سعد القرش يذكرني بعبارة الناقد العظيم بيلينسكي وقوله " المشكلة ليست في الكلمة. المشكلة كلها في النبرة التي تقال بها الكلمة " . نعم . النبرة هي ما يميز كتاب الأديب الروائي سعد القرش عن عشرات الكتب الأخرى التي كتبت بعجالة في الموضوع ذاته ، النبرة التي تشعر بحراراتها ، بصدقها ، بلفح الغضب العميق فيها ، ذلك أن سعد القرش لم يكتب كتابا ، لكنه وصف نفسه ، وأحلامه ، وهي أحلام الكثيرين من المثقفين الشرفاء الذين أهالت عليهم السلطة طويلا تراب التجاهل والإهمال . لا تظن إذن أن الكتاب كتب في شهرين ، بل في سنوات طويلة من الاهتمام بحالة الوطن ، سنوات من المواقف التي جلبت على صاحبه قبل الثورة المنع من النشر في " الأهرام المسائي" بل ونقله إلي قسم الحوادث . الكتاب صدر مؤخرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في سلسلة " إبداعات الثورة" .
القرش روائي قبل أن يكون صحفيا ، لهذا تقرأ له مقطعا يصبح فيه التاريخ كله وأشواق الثورات المصرية كلها لحظة واحدة فيأتي سيد درويش إلي ميدان التحرير حاملا عوده ، ويقيم في الميدان ، ويلتقي بالشيخ إمام ، ويسأله عن جديده ، فيغني له إمام ، وتغير شادية فتستقبل الاثنين بغنوتها " يا حبيبتي يامصر " ، ويطل عبد الحليم حافظ على المشهد ب " صورة " ، وتنافسه أم كلثوم وهي تقف في الحديقة الوسطى للميدان منشدة للثورة !
لا يغفل هذا الكتاب الجميل لحظات الضعف حين يخاف سعد القرش قليلا ، ثم يتغلب على خوفه مندفعا إلي الأمام ، ولا يغفل لحظات المرارة حين يركب المؤلف مع ضابط شرطة فتوقف إحدى اللجان الشعبية سيارة الضابط وتصر على تفتيشها ، و " تكسر كبرياءه " . " الثورة الآن " كتاب لا يكتب في شهرين ، بل في سنوات طويلة كان القرش فيها أحد " الكاظمين أقلامهم " .
إلا أن للكتاب وجها آخر ، غير " التوثيق الروحي " للحظة الثورة ، ذلك أنه يفتح النيران على الماضي الذي يحاول أن يلتهم الحاضر ، يفتح النيران لا لشيء إلا حرصا على الثورة " الآن " من أخطبوط كتاب الدولة الذين كلما قطعت لهم رأسا برزوا يمينا ويسارا برؤوس أخرى وأقنعة ومقالات تناسب لحظة الثورة . يستعرض القرش أسماء ومقتطفات من مقالات كل الذين ظلوا يلعنون أبناء الميدان حتى اللحظة الأخيرة ، ومقتطفات أخرى لنفس الكتاب والإعلاميين بعد الثورة يلعنون فيها كل ما سبق لهم أن باركوه وساندوه واستماتوا دفاعا عنه ! ويعد توثيق تلك المواقف قضية بالغة الأهمية ، لأن الزيف ينزلق بنعومة من الماضي إلي حاضرنا " الآن " ، وينزلق معه " الرياء " . يستعرض القرش مواقف وتصريحات خيري شلبي ، وجابر عصفور ، وفريدة الشوباشي في مجلة الشرطة ، وعائشة أبو النور ، والسيد يسين ، وأنيس منصور ، قبل الثورة مباشرة ، وبعدها فلاتملك إلا أن تتعجب من الوثب السريع من أروقة الحكم المكيفة إلي حرارة الشوارع الثائرة ! هكذا نرى خيري شلبي الذي راهن على أن مبارك سيقود أحلام مصر هو نفسه خيري شلبي الذي كتب بعد الثورة في جريدة الأخبار " لو حكم على مبارك بالإعدام في حالة إدانته فسيكون ذلك شيئا عظيما " ! ويصك القرش لتلك المواقف مصطلح " الشجاعة منتهية الصلاحية " ! ونرى السيد يسين الذي انقض على الثورة في لحظات ولادتها هو نفسه السيد يسين الذي كتب فيما بعد في الأهرام المسائي " لم يكن هناك حل إلا بالثورة الشاملة " ! وسيلتقط سعد القرش مواقف صلاح فضل ويمسك بها بحالاتها المتقلبة لكي لا تضيع من الذاكرة ويطلق عليه "عراب الجوائز " . ويرسم المؤلف صورة مدهشة لاصطناع الكتاب والوزراء حين يقدم لنا " أنس الفقي " ويكشف لنا أنه كان مجرد مندوب مبيعات : " واحد من أولئك الشبان الذين يضايقونك وأنت تدخل معرض الكتاب ويقدمون إليك عروضا حتى تضطر للقبول بها تخلصا من اللزوجة .. فتشتري موسوعة أو كتابا بالتقسيط فيمر عليك أنس الفقي بعدها لتحصيل القسط الشهري ، لكنه عرف السكة وصدرت التعليمات أن اصنعوا له تاريخا قبل أن يصير وزيرا ! فتولي الهيئة العامة لقصور الثقافة ثم الوزارة ! " . يضع القرش يده على طريقة صناعة الوزراء ، بل والكتاب والأدباء بينما تسدل ستائر التجاهل الكثيفة على كل موهبة وكل مثقف حقيقي .
يعري سعد القرش المنظومة الإعلامية كاملة ، ويحاصر في كتابه ذلك " الانزلاق الناعم " لكتاب الدولة من الماضي إلي الحاضر، لكي لانخدع مرة ثانية . إلا أن الكتاب برغم القائمة الطويلة للمتحولين ليس جردا لتلك الأسماء ، إذ أنه يتطلع إلي أوضاع مصر وحياة أكثر من 14 مليون مواطن فيها تحت خط الفقر ، وصورا من شقاء تلك الحياة التي عاش سعد القرش جانبا منها حين اضطرته ظروفه للعمل وهو في سن السادسة في جمع دودة القطن بستة قروش في اليوم ، ومشاهد أخرى من حياة المواطنين من أمثال " على مختار القطان " الذي تجرأ يوما وصاح في مبارك " اتق الله ياريس " فظل وراء الشمس على الرغم من حصوله على أكثر من خمسين قرار إفراج من القضاء كانت وزارة الداخلية ترفض تنفيذها بحجة خطورة الرجل على الأمن العام . وسيدرج المؤلف أيضا الأوضاع المهينة التي عاشها الصحفيون والتي بلغت حد ضرب الصحفيات أمام نقابة الصحفيين والتحرش بهن وهتك عرضهن !
كتاب " الثورة الآن " مشبع بالشعور بأن مصر ظلمت طويلا وفي هذا الإطار يستشهد سعد القرش بما كتبه ريتشارد ترومكا رئيس اتحاد العمال الأمريكي في مقدمة كتابه " النضال من أجل حقوق العمال في مصر " حين يقول " إن مصر لعبت دورا هاما في تاريخ العمال إذ كان الاعتصام الذي قام به بناة الأهرام لمدة ثلاثة أيام .. للتظلم من الأجور هو أول إضراب موثق عرفه التاريخ " !
أخيرا أقول إن الناس يعرفون الخطوط العامة لقصة " روميووجولييت " ومع ذلك فإنهم يترددون على المسرح لمشاهدة المسرحية التي يعرفون خاتمتها سلفا ! ذلك لأن قيمة العمل الفني ليست فيما ينتهي إليه من نتائج ، بل في كيف ينتهي إلي كل ذلك، قيمته في التفاصيل الحية ، أيضا فإن أي استعراض لخلاصة كتاب " الثورة الآن " لن يغنيك عن الدخول إلي الكتاب للاستمتاع بتفاصيله المرسومة بصدق وحرارة .
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :