رباب كمال
في طفولتي كانت هي أمي ، و لكنها في السنوات الماضية أصبحت طفلتي التي أراعيها و أدللها كما راعتني و أحبتني صغيرة
ما راعتني و أحبتني صغيرة . هكذا وعدت نفسي أن أرحمها من ذل المرض، و قد فعلت. لم أتركها تهان من مرض أو عوز.
تخبرني #ملك أن الحرية لها أشكال مختلفة و من بينها الموت ، أو كما كانت تسميه هي تحرر الروح من سجن الجسد المتألم . لذا فإنني أزف خبر تحرر أمي من أغلال المرض، فموت الجسد انتصار على المرض حسب قولها.
أمي تحررت و بلغت الحرية من أوسع أبوابها أخيرًا مع مطلع اليوم الجديد، و كانت دقات الساعة شاهدة على ذلك و كأن كل دقة ترنيمة في أذني تودعها كما الموسيقى
كنت على وشك الاعتذار عن عملي مساء الجمعة ، لكن ملك قالت لي ألا أتخلف عن عمل الجمعة و بدلا من ذلك أطلب أجازة يوم السبت ، فهي تريدني معها ذلك اليوم .، ففعلت كما طلبت مني ، و مع انتهاء يوم السبت و بداية يوم الأحد ،و في منتصف الليل تحديدا بدأت رحلتها إلى الأبدية. .
كم كنت محظوظة بها ، أعلم تماما أن الأمهات مثيلاتها لسن متوفرات و لا يجب أن نأخذ وجودهن كأمر ُمسلم به . لهذا استوعبت نعمة القدر وهي على قيد الحياة .
كم كنت محظوظة أن تكون أصابعي آخر ما أمسكت به كطفلة تمسك يد أمها . أمي هي طفلتي ، هكذا كانت مشاعري تجاهها ، لطالما شعرت بالأمومة تجاهها .
كانت ألطف الأوقات وقت الاستحمام ، حين كانت ترشني بالمياة وهي جالسة على كرسيها المتحرك و أنا متخففة من ملابسي ثم تقول لي كنت أرشك هكذا و أنا أحميك صغيرة فتضحكين، ثم تقول " اضحكي ، السعادة عادة و لو بزيادة "
كم كنت محظوظة أن روحها غادرت جسدها في منتصف المساء في ليلة حظر التجوال ، هكذا ُحبست مع جسدها ساعات الليل ، فنمت في حضنها ووضعت رأسي على صدرها لآخر مرة في هدوء و سكون و راحة لم أتخيلها حتى مطلع الصباح . هذه الحالة الوحيدة التي يكون فيها المحبس متعة .
قلت في عقل بالي سأنام إلى جوارها و "الصباح رباح " ، سعيت لتدفئة جسدها قدر المستطاع و لكن الطبيعة تغلب ببرودها . و انضمت إلينا قطط المنزل في الفراش ، لكن بدون إحداث جلبة ولا لهو هذه المرة .
غقلت عيني لحظة بجوارها، فرأيتها تضحك كما كانت في يوم زفافها ، اعتبرت ذلك إشارة للصورة التي أريد أن أخلدها بها في ذهني .
نفذتُ وصايا أمي بالحرف في يومها الأخير على الأرض . ارتديت القميص الأبيض المنقوش باللون الوردي الُمحبب إلى قلبها و أنا في وداعها . و واريت جسدها إلى جانب جسد والدتها . ولن أرتدي الأسود كما أوصتني .
دومًا كانت تؤكد عليّ هذه الكلمات " لا عزاء و لكن أبلغي الجميع حبي ، لا نحيب، لكن سأسمح لك بالبكاء بشرط أن يعقبه ابتسامة و أنت تذكري ضحكنا سويا "
فأنا ورثت عنها الروح الساخرة ، هي كانت ترى في الضحك آلية دفاع ضد حزن الحياة
.
وصيتها الأصعب على نفسي ، هي تركها للموت في فراشها ، لم تكن تريد أن ُتحتجز في ثلاجة موتى بالمستشفى ، مع الساعات الأخيرة ، قالت لي أرجوك دعيني أرحل و هي خائرة القوى ، جسدي يهم بالرحيل فلا تتركيني عالقة في جسد متألم ... مات الجسد في حضني أو أن في حضنها ، لا أتذكر تحديدا من كان في حضن من !! .. في حضن بعض هي العبارة الأقرب .
سأنفذ بقية وصاياها طالما حييت ، ومن بينها ألا يتوقف القلم إلا إذا فقد حريته ، فالصمت أفضل من الهذيان على حد قولها .
سأنفذ وصيتها في توزيع نفس الصدقات التي كانت توزعها، لم تكن وصيتها للبشر فقط و إنما كانت وصيتها بالرأفة و إطعام حيوانات الشارع كما كانت تفعل..
أوصتني أن أستمر في معرفة نفسي من خلال الآخر، أوصتني بحب البشر على اختلاف العقائد... فالتعصب يفرق. و الحب يجمع.
هكذا كانت ملك " التي علمتني أن أحطم أصنام عقلي أولا ، و التي علمتني أن التمرد و الحرية تتطلب الثبات الانفعالي لا الحنجورية و الشعارات "
أوصتني أن أحب الحياة و لا أهاب الموت ، أن أحول الحزن لطاقة حب و سأفعل .
أوصتني ألا تنقطع الموسيقى عن منزلها و سأفعل .
أوصتني أن أظل أمارس الرياضة ، فمن خلالها رأتني و أنا أتحول من جسد ثقيل كئيب إلى جسد سعيد مرح، و سأفعل
وأوصتني ألا أتوقف عن الإيمان بالحب و سأفعل.
كانت دوما توصيني بالجلوس في الحدائق، و تحذرني من الأماكن المغلقة الأسمنية، فالأسمنت يحجر القلوب ... و سأفعل.
أوصتني أن أتمسك بالعقلانية لكن بدون أن أفقد إنسانيتي، و أوصتني أن أتمسك بإنسانيتي بدون أن أفقد عقلي... فالتوازن بينهما سر الحياة....و سأفعل.
أوصتني ألا أستخدم تلك العبارة الشائعة والتي يرددها الناس بأن ظهورهم انكسرت بوفاة الأم..فهي تركت من خلفها ظهور قوية لا تنكسر.
استيقظت في حضن أمي على صوت العصافير التي كانت تتطلع إليها من شرفتها كل يوم و تترك لها كسرات الخبز على سور الشرفة ، جاءت الطيور تودعها صباح اليوم فلم تجدها ...لكنني وضعت كسرات الخبز و الماء نيابة عنها و سأظل أفعل.
هذا ليس نعيًا ، بل احتفاء بحياتها المليئة بالحب ، و لا يوجد فراق بيني و بينها ، فأنا أحملها بين ضلوعي .
أما أخيرا ، لابد أن أعترف أنني كنت أنهي بعض الشذرات الأدبية بكلمتها المعهودة ( كل الحب ،
و بعدها بدأت العبارة تنتشر بين الصديقات و الأصدقاء في كتاباتهم ، فسعدت أمي ملك و قالت " أرايتي يا جميلتي ؟؟ الحب ُمعدي " .