عاطف بشاي
الاعتياد على القبح يحيله إلى جمال.. وبالتالى فإن الفنون التى تتراجع هى بالضرورة والحتمية نتاج مجتمع متراجع.. والحقيقة أن مظاهر القبح التى تتنامى وتستشرى والتى سبق أن عبر عنها د. يوسف إدريس فى مقاله المهم (فقر الفكر.. وفكر الفقر) منذ أكثر من عشرين عاماً... مبدياً دهشته البالغة من اعتياد سكان أحد شوارع حى شعبى بالقاهرة غارق فى مياه المجارى على القبح والقذارة والروائح الكريهة لدرجة أنهم يجلسون على مقاعد خارج مقهى بالشارع يلعبون الطاولة والدومينو باستغراق واستمتاع ولا مبالاة.. وهو ما يذكرنا الآن بنفس المشهد الذى يتكرر فى الكثير من الأماكن على مقاهى مكتظة بالبشر على أرصفة الشوارع.. يدخنون الشيشة فى لذة واستغراق رغم كل التحذيرات التى تقوم بها الدولة من خلال وسائل الإعلام المختلفة لخطرها الداهم فى انتشار (الكورونا).
أقول إن الاعتياد على مظاهر القبح تلك يمثل أزمة ثقافة.. كما أنه أزمة مجتمع.. وأن انحدار الذوق العام وتدنيه هو انعكاس لتدنى هذه الفنون والآداب فى مرحلة ردة حضارية نعيش فى كنفها. فهبوط مستوى الأفلام السينمائية يؤثر تأثيراً سلبياً وواضحاً على عقل ووجدان المتلقى.. وخاصة أن هذا التأثير السلبى يشمل انهيار القيم والأخلاق وشيوع العنف والاتجاه إلى الانتقام الفردى وتحدى القوانين والانتصار للبلطجة والدعوة إلى تكريسها ممثلاً فى أفلام (محمد رمضان).. أو الاتجاه إلى نوع من الكوميديا الاصطناعية التى تعتمد على التهريج الرخيص والابتذال فى الحركة والسلوك والحوار السوقى الذى يفجر ضحكات غليظة وممجوجة دون الاعتماد على موضوع يحمل قضية أو يثير فكراً.. أو يناقش مشكلة اجتماعية أو سياسية تهم الناس.. وبالتالى تفتقر إلى كل عناصر الكوميديا الحقيقية التى تقوم على السخرية من مظاهر القبح فى المجتمع وإزاحة الأقنعة عن وجوه البشر وعن عوراتهم وأغوار النفس الإنسانية.. بل يمكننا أن نقول إن هذه الأفلام المتردية تسىء إلى فن الكوميديا العظيم..
والأغنية باعتبارها مظهرا من مظاهر أزمة الثقافة تكشف عن أزمات أخرى متعددة فى الكلمة المكتوبة التى يسيطر عليها الابتذال والركاكة والتى ظلت تنحدر بالتدريج بعد رحيل قمم كبيرة تشمل أسماء رائعة لشعراء العامية الموهوبين صلاح جاهين والأبنودى ومرسى جميل عزيز وعبد الوهاب محمد ومأمون الشناوى وعبد الرحيم منصور وفتحى قورة..
ثم اللحن الردىء الصاخب والمزعج والذى يعكس ضوضاء عشوائية ويفتقر إلى الابتكار والخيال والأصوات الضعيفة وغير الموهوبة..
وإذا كانت عبارة انهيار الذوق العام هى عبارة مطاطة باعتبار أن الجماهير العريضة تمثل كتلة بشرية مختلفة الثقافات والمعارف والميول والاتجاهات والطبقات.. فالحقيقة أن القاعدة العريضة للجماهير ازدادت فى الاتساع لتشمل أعداداً غفيرة تقبل إقبالاً كبيراً على شباك التذاكر للسينما الرديئة.. وعلى الاتساق والانسجام والإعجاب والانبهار بما يقدمه (شاكوش) و(حمو بيكا) وغيرهما.. ومن هنا فإن المنع وفرض الوصاية هو أمر مضحك تماماً.. فناهيك عن أنه ضد الحرية الإنسانية.. التى تكفل حرية التعبير.. فهو ليس علاجاً ناجعاً..
فما الحل إذاً؟! وهل ما سبق ذكره يدعو إلى التشاؤم والخوف.. وأن الأمل يتراجع فى مستقبل يتجاوز عثراتنا أم أن الأزمة مستحكمة.. والنهضة من جديد باتت أمراً مستبعداً.. أو حلم تحقيقه بعيد المنال؟!
يرى الدكتور محمد الجوهرى أستاذ علم الاجتماع.. ومراجع الكتاب المهم (سوسيولوجيا الفن.. طريق للرؤية) لمؤلفيه (ديفيد أنفليز) و(جون هغسون).. أننا لابد أن نتوقع من الصفوة دوراً جوهرياً فى دعم الثقافة ونقدها ونشرها.. فالثقافة فى كل العصور وفى أغلب المجتمعات كانت تتلقى دفعات قوية من الإبداع والتجديد على أيدى أبناء الصفوة الذين ساندوا فنون التصوير والباليه والموسيقى والأدب..
كذلك لن يسعنا إلا أن نأمل أن تنطلق المؤسسة التعليمية فى أداء دورها فى تربية الفكر والوجدان والانتماء.. ولا تقتصر على حشو الرؤوس بالتفاصيل والجزئيات.. وهو الأمر الذى نأمله فى وسائل الاتصال الجماهيرى من الاضطلاع بدورها كأداة لتربية الشعب.. والارتفاع بمستوى الذوق العام تداوى به قصور المدرسة وأبواق منابر التخلف المتخلفة.
نقلا عن المصرى اليوم