د/ عايدة نصيف
بعد ارتفاع عدد المصابين بكورونا على مستوى العالم وفى إطار جغرافي كبير، وبعد إعلان منظمة الصحة العالمية بانه وباء عالمي ومعلوم، وزيادة عدد الدول والمدن المصابة مما نتج عنه تغير فى السلوك الإنساني اليومي المعتاد بحكم إجراءات الحكومات..
فأصبحت الشوارع هادئة فى معظم الأوقات وتحديدا فى أوقات الحظر وكأنها سعيدة بهذا المشهد الذى غادرها منذ سنوات وسنوات، وغلق النوادى والكافيهات ترتب عليه ما يسمى باستعادة مفهوم الأسرة مرة أخرى، وأصبح لا صوت يعلو فوق صوت الكورونا فى وسائل الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وقد يبدو ان الكورونا سوف تساعد فى إستعادة بعض العادات والسلوكيات الإيجابية التى توارت فى زمنها البعيد.
أصبح هناك مواعيد محددة للعمل وإرشادات للنظافة الشخصية، وكأنها فرصة ذهبية لإعادة التواصل الحقيقي للمجتمع الصغير ألا وهى الأسرة، هذا جانب، ولكن من جانب آخر هناك حرب شرسة لمواجهة هذا الوباء من جانب العلماء والأطباء لإيجاد علاج ولقاح لمواجهة هذا الفيروس، ومما لاشك فيه ان هناك خسائر فادحة على مستويات أخرى كثيرة..
ولكن التاريخ يذكرنا عندما نرجع الى منهجيته وفلسفته ان الخسائر الفادحة تُمكن الإنسانية من بناء حضاري جديد، وهنا يأتى أدراك العقل فيما يحدث من كبوات كبرى تجعل الإنسان يتكيف معها ويحول المحنة الى منحة؛ لمزيد من التطور الإيجابي ومزيد من أعادة البناء الصحيح.
فقد مر بالعالم أحداث يحكى عنها التاريخ شبيهة بذلك خلال العقد الماضي والحالي، ولنذكر مثلا الطاعون والأنفلونزا الإسبانية التى حصدت أرواحًا كثيرة، وخلال العقد الحالي كالحمى القلاعية وأنفلونزا الطيور والخنازير، وعاش العالم هلع مثلما يعيش الآن ولكنه توارى باكتشاف اللقاح والعلاج وتسويقه ونأمل فى الأيام القادمة ان يحدث ذلك بمشيئة الله.
وبالطبع سوف تكون هناك تداعيات وتغيير فى النظم الاقتصادية العالمية بل والسياسية أيضا، وما يتبع ذلك من تداعيات أخرى، ولكن يجب أن نخرج بدروس مستفادة من هذا المشهد ألا وهو إعادة انضباط سلوك الإنسان، وإعادة ترتيب من جديد على جميع المستويات وان تكون الصدارة للعلم والبحث العلمى، بعدما اتضح للجميع سقوط تجار الدين والسياسة فى أحداث الأزمة سقوطا ذريعا..
واقصد هنا بالبحث العلمى ليس فى مجال الطب والعلاج فقط ولكن فى كل ما يخص الإنسان من علوم عملية وإنسانية، وهنا أتذكر حينما ظهرت الفلسفة الوجودية فى العصر الحديث بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية المدمرتين، ترتب عليهما فقدان الملايين من البشر وتفتت اجتماعي واسرى وضيق نفس وقلق سيطر على الناس، مما دفع المفكرين إلى البحث عن مشكلة الإنسان ووجوده وحريته ومكانته والدور الذى يمكن ان يقوم به، ومن ثم أصبح الإنسان هو محور الاهتمام على جميع الأصعدة .
ولذا فقد أن الأوان ان يكون الاهتمام بكل ما يخص الإنسان على كل المستويات: المادي والفكري والنفسي والوجدانى، وهنا أتذكر الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر اذ قال "إن الناس هم الذين يخلعون على العالم ما قد يوصف به من النظام والمعنى"، كما يحضرني قول الفيلسوف "هربرت سبنسر" فى تعريفه للحياة "انها هى المواءمة المستمرة بين البيئة الداخلية والبيئة الخارجية"، بمعنى إن الإنسان لديه القدرة على تكييف طبيعته الخاصة تكيفًا مستمرا ليكون أقدر على معالجة بيئته.
فالإنسان بالطبع قادر على التغيير بصورة كبيرة عن طريق التكيف مع الظروف، وبخاصة التغيير مع الظروف القاسية إلى حياة أفضل، ومن ثم يجب أن تكون تجربة كورونا "رسالة فى إصلاح العقل"، فى الفهم والإدراك وإعادة التوازن للإنسانية والبيئة المحيطة، وعدم الانجراف فى تيار العولمة الذى كاد أن يقضى على كل ما هو إنساني وكل ما هو قيمي ومعرفي، وإعادة ادراك الفهم والإدراك الواضح لطبيعة البشر ومكانهم فى الكون وكذلك إعادة ادراك الفهم الواضح للعالم.
ولعل فى مواجهة الإنسان لكورونا تكون هناك مواجهة لفيروسات أخرى فتاكة كفيروس الكراهية والفقر والمجاعات والعنصرية، والفكر المتطرف الذى ينتشر بصورة رهيبة فى بقاع الأرض، وغيرها من الفيروسات التى أصابت الإنسانية.. لعلها تكون رسالة فى إصلاح العقل.