الإرهـابــي والفيلسوف
بقلم - إدوارد فيلبس جرجس
إندفعت السيارة "الجيب السوداء" ذات الزجاج المعتم ، خلف السيارة "الفورد الرمادية" ، التي يقودها الكاتب والفيلسوف "عزيز الديواني" ، ترافقه أسرته المكونة من زوجته وطفليه . توقفت السيارة الفورد في ساحة انتظار السيارات الخاصة بمدينة الملاهي ، وتوقفت بالقرب منها السيارة الجيب السوداء . مرات معدودة التي رافق فيها "عزيز " عائلته في نزهة ، هذه المرة رضخ بعد أن أصرت طفلته "هند" أن يصاحبهم إلى مدينة الملاهي . أكثر شيء يزعجه دموع ابنته " هند " التي لم تتجاوز الثامنة من عمرها ، الشيء الوحيد الذي كان يفل من عزيمته الحديديه . تركهم " عزيز " مع ألعابهم مستأذناً في الذهاب إلى الكافيتريا لاحتساء فنجان من القهوة ، مازحته زوجته مسرورة لانتصار دموع " هند " وإجباره على الذهاب معهم لمدينة الملاهي ، وهو الذي يرفض حتى الذهاب للعشاء في أحد المطاعم وقالت والإبتسامة تملأ شفتيها :
- ألن تشارك الأولاد ألعابهم يا عزيز ؟
أجاب " عزيز " مبتسماً وهو يغادرهم مسرعاً قبل أن تقذفه زوجته بتهكم آخر .
- إحجزوا لي مكاناً بالإرجوحة ..
تذكر أنه لم يحضر الصحيفة من السيارة ، عرج إلى مكان انتظار السيارات قبل ذهابه للكافيتريا . فتح باب السيارة ، لم يتمكن من مد يده داخلها لإحضار الصحيفة . شيء صلب دغدغ جانبه ، التفت سريعاً للخلف ، إصطدمت عيناه بوجه يحمل ابتسامة مزيفة يأمره بالسير معه بهدوء ، لأنه لا يضمن المسدس الذي يوجهه من أسفل سترته إلى جانبه ، فقد تنطلق منه قذيفة قاتلة . لم يكن أمامه الخيار وهو يرى على بعد خطوات وجه ثان تكسوه مسحة شريرة يتفحصه بنظرة صارمة .
سأل عزيز وقد أربكته المفاجأة :
- ماذا تريد ؟ !
- فقط أن تسير معي بهدوء .
- إلى أين ؟
- لا داع للعجلة ستعلم كل شيء بعد قليل .
- لكنني تركت أُسرتي داخل مدينة الملاهي .
جذب الرجل سلسلة المفاتيح من يده قائلاً :
- نحن نعلم ، وسنرسل مفاتيح السيارة إلى زوجتك ، نعلم أنها تجيد القيادة فلا تقلق .
قال عزيز الديواني مستسلماً :
- أنا أعلم أنه لا جدوى من المقاومة !!
قال الرجل بنبرة تحمل تهديداً خفياً :
- وهذا ما نتوقعه من مفكر وفليسوف مثلك .
إزداد عدد ركاب السيارة الجيب السوداء المعتمة الزجاج بانضمام " عزيز " إليهم، وفر " عزيز " على نفسه مشقة السؤال والحديث ، يعلم جيداً أنه لن يتلقى إجابة ، في مثل هذه الأحوال ، لا تزيد المهمة التي يُكلف بها هؤلاء عن القيام بمهمة الإختطاف ، وإحضارالمُختطف إلى الرأس المدبر. من هو الرأس المدبر ، وماذا يريد منه ؟ ، لا يعلم ، قصد أن يترك عينيه تذهبا في غفوة بالرغم من توتر أعصابه ، مرت أكثر من ساعة لم تتوقف خلالها السيارة أو تهدىء من سرعتها . فتح عينيه على صوت مختطفه يخاطبه بلهجة مؤدبة :
- لقد قاربنا على الوصول ، إسمح لي أن أستبدل نظارتك بهذه العصابة.
لم يجب عزيز ، استسلم للجالس بجانبه وهو يعصب عينيه ، عالماً أيضاً أنه لا جدوى من الإعتراض ، ففي مثل هذه الأحوال لا جدوى من الإعتراض ، ولا يضمن ماذا يحدث لو أبدى حتى لو اعتراض بسيط ! . ترك ذراعه للمختطف يتأبطها ويقتاده كالأعمى ، صعد بضع درجات ، وأجلسوه برفق فوق مقعد ، أحس به من النوع المريح . عاد النور إلى عينيه بعد أن رُفعت عنهما العصابة ، فوق المقعد الذي أمامه مباشرة كان يجلس شخصاً جاوز العقد الثالث ، لحيته سوداء داكنة تخطها بعض الشعيرات البيضاء ، يرتدى عباءة حريرية بيضاء اللون ، واختفى شعر رأسه أسفل طاقية بيضاء لا يبدو منه سوى سوالف امتدت إلى لحيته . ملامح وجهه الجامدة لم تعط فرصة لشخص مفكر وفليسوف مثل " عزيز الديواني " لاستكشاف ما يدور برأسه . شبه الابتسامة التي انفرجت عنها شفتاه فسرها على أنها نوع من الحيرة الممتزجة بالخجل . لم ينطق الرجل بكلمة واحدة بالرغم من عيناه* اللتان لم تكفا عن التحديق في وجه " عزيز " منذ جلوسه أمامه . أشار بيده فأحضر له أحد أعوانه المنتشرين حوله كتاباً ، بمجرد أن التقطت عينا "عزيز الديواني " العنوان المدون على الغلاف ، تأكد من أن هذا الكتاب هو سبب مجيئه إلى هذا المكان ، لم يكن سوى آخر مؤلفاته عن الإرهاب . إذا ً فهو في ضيافة إرهابي ، موقعه في تصنيف الدرجات الإرهابية لا يقل عن درجة زعيم أو أمير كما يطلقون عليه ، كل شيء حوله يوحي بذلك ، المكان المهيء كمكتب لدرجة لا تقل عن درجة وزير ، الأشخاص الذين يتحركون بإشارة من يده ، النظرة المتجلية داخل أعينهم ، والتي تشبه النظرة الحمراء اللامعة في عيني الذئب ، الذي ينتظر الفرصة المواتية للإنقضاض على الفريسة . فتح إحدى صفحات الكتاب ولا تزال عيناه عالقة بعيني عزيز دون أدنى اختلاجة . تحركت شفتاه تتلو بصوت مرتفع الكلمات المدونة وكأنه يحفظها عن ظهر قلب : إن السبب الرئيسي الذي زاد من من حجم الإرهاب ، تضخيم العالم له ، وكأنه يمجده ويرفع من شأنه ، فلقد تبارت الدول الكبرى لأغراض سياسيه ، في إبرازه في صورة كما لو كان في قدرته السيطرة على العالم بأجمعه . واتبعت في أسلوب مقاومته العنف الزائد عن حده ، وشن الحرب عليه بطريقة غير مدروسة جيداً ، بينما كان من الأفضل اتباع أسلوباً مختلفاً قبل اللجوء إلى العنف ، كان يجب أن تدرس السلوكيات والتكوين النفسي الذي بنيت عليه الشخصية الإرهابية ، فأنا أعتقد اعتقاداً راسخاً أنه لو تم هذا كان من السهل جداً الحصول على نتائج أفضل وذات فعالية ، من شأنها تحجيمه والقضاء على هذه الظاهرة ، أو اجتذاب قياداته للمناقشة وحصرها في أضيق الحدود . فالشخصية الإرهابية شخصية معقدة من الناحية النفسية وتستحق الدراسة ، ومن هذه الدراسة كان يمكن الوصول إلى أبسط الحلول واستنباط أنجح الطرق لعلاجها . في اعتقادي أن زعماء الإرهاب ، بالرغم من شراستهم التي يحاولون الظهور بها ، يحملون نفسية وعقلية لطفل مسكين ، لم يجد العناية الأسرية ولا الحنان الكافي ولا البيئة الصالحة للتنشئة السليمة ، يلعبون مع المجتمع بنفس طريقة استخدام هذا الطفل المعقد نفسياً للعبه ، فهو يحطمها ويجد في تحطيمها شيئاً مريحاً لنفسيته ، يعطيه الشعور بأنه أفضل وأقوى ومتميز عن باقي الأطفال . بل أن هذه النفسية الغير سوية نتيجة أخطاء التربية والمعاملة ، قد تولد عنده رغبة أكيدة في العنف والعناد والتمرد ، لدرجة أنه يبول في فراشه عن قصد ليجذب النظر إليه ، ولا يألو جهداً عن الأتيان بتصرفات وسلوكيات غريبة تلفت النظر إليه . إن زعماء الإرهاب مجرد أطفال حرموا من طفولة صحيحة وآمنة نتيجة لعوامل قد تكون مادية أو تربوية أو معنوية . وعندما كبروا استهوتهم لعبة النار كنوع من التنفيث عن الكبت الذي تكون وكبر معهم . كان يجب على العالم أن يكثف جهوده لهذه الدراسات أولاً ، كخطوة رئيسية لعلاج هذه الظاهرة ، قبل أن يبدأ في استخدام العنف المطلق ، الذي زاد من حدة الإرهاب ، ، فكلما شعروا بازدياد العنف الذي يستخدم ضدهم ، يقابلونه بعنف أكثر على نمط تحطيم لعب الطفولة على نطاق أكبر وأقوى ، إرضاءً للنفسية المريضة التي نشأوا عليها . توقف الزعيم الإرهابي عن القراءة ونظر نحو عزيز وهو يحاول أن يكبت نظرة غاضبة ولا يدعها تخرج خارج عينيه قائلاً :
- أعتقد أنه لا داعي للاستمرار في تلاوة كلمات أنت كتبتها بيدك ، وبصفتك كاتب وفيلسوف فبالتأكيد أنت مقتنع بها تماماً .
أجاب عزيز الديواني دون أن يطرف له رمش :
- بالضبط أنا كتبت هذه الكلمات وكما تقول بالتأكيد مقتنع بها ، بل ومؤمن بها .
قال الزعيم الإرهابي وفي عينيه نظرة توحي ببعض الإعجاب :
- هل تعلم ما الذي يبقي لك على أنفاسك حتى الآن ؟!
أجاب عزيز الديواني مبتسماً :
- أعتقد أنني كتبت عن هذا أيضاً ، في أنكم تجدون متعة ، في تعذيب ضحيتكم قبل أن تطير رأسه ، كالأطفال المرضى نفسياً عندما يحطمون اللعبة بالتدريج ، فكيف ستبدأ معي ؟! .
- أعتقد أنك أخطأت في هذه أيها الفيلسوف .. لأنني لا أفكر في أن ألعب هذه اللعبة معك ، لأنني من أشد المعجبين بكتاباتك الفلسفية ، بدليل أنني قرأت كتابك هذا بمجرد نشره ، ولم يضايقني ما كتبت ، ولو كانت هناك فرصة لمناقشتك في مكان آخر ، ما كنت سلكت معك هذا السلوك لإحضارك إلى هنا . أمرت بإحضارك إلى هنا لإقناعك أن ما نقوم به ، هو الطريق السليم والمضبوط لتقويم سلوك العالم المعوج ، وأن ما تسميه أنت تحطيم للمجتمع ، ما هو إلا علاج لمجتمعات منحلة ، وجهاد في سبيل الدين . وبالتالي نطالبك بأن تكتب بنفس نظرتك الفلسفية عن وجهة نظرنا ، وفي حالة تخليك عن هذه القضية وعدم تنفيذ ما نأمرك به ، أعتقد أن المرة القادمة لن تكون أنت هو المقصود ، لكن ستكون ابنتك هند هي ثمن عصيانك .
علق عزيز الديواني وفوق شفتيه ابتسامة ساخرة :
- لاحظ قولك بأنك أحضرتني أو بمعنى أكثر وضوحاً اختطفتني ، لكي تقنعني بدوركم كحد زعمك في علاج العالم المعوج والمجتمعات المنحلة ، وأنا أراك بدأت بالتهديد ، وليس بالإقناع .
- دع حكمك للنهاية وبعد أن تستمع لي قد لا نحتاج لأي أسلوب للإقناع ، أو التهديد ، لكن فكرك هو الذي يقودك للإقتناع بنا .
- للأسف .. فكري بنيته عن اقتناع تام ، وبعد دراسة كافية ، وما كتبته في كتابي ، لن أتراجع عنه ، ولن أغيره لأي سبب من الأسباب .
قال الزعيم الإرهابي وقد عادت نبرة التهديد :
- حتى لو كان الثمن رأسك !!
قال عزيز الديواني وقد جمعت عيناه بين نظرة التحدي واللامبالاة :
- أعتقد أن رأسي لن يزيد ثمنه عن أي رأس من الرؤوس التي طارت بسيوفكم ، وسيكون نجاحاً باهراً لأفكاري ومعتقداتي وكتابي وما جاء به عنكم .
قال الزعيم الإرهابي وقاد عاد لليونته :
- ُكتب عنا الكثير ، ولم ينقص منا شئ ، وأبواق الدعاية ضدنا لا تتوقف ، أنت بنفسك قلت أنها نوع من التمجيد لنا ، لكن في الحقيقة ما كتبته أنت له لوناً آخراً ، لأنك تناولته من الناحية الإنسانية والنفسية ، والنظرة الفلسفية البحتة للموضوع ، ولأول مرة أشعر بأن هناك كلمات تؤلم أكثر من ضربة السيف .
قال عزيز الديواني وقد بدا عل ملامحه تفكير عميق :
- علمت من حديثك أنك حاصل على شهادة جامعية ، وأحسست من كلماتك أنك تحمل ثقافة أيضاً ، فما رأيك لو عرضت عليك عرضاً قد يريحني ويريحك .
أجاب الزعيم الإرهابي وقد بدا عليه الإهتمام :
- تفضل فأنا أحب أن أستمع إليك كما أحب أن أقرأ لك .
- حسناً .. ما رأيك لو سلمتني نفسك شهراً كاملاً ، تخرج فيه من هذه القوقعة التي تسجن نفسك بها ، وتأتي معي ، أريك فيها الحياة بطريقة أعتقد أنك لم ترها من قبل . بشرط أن تأتمر بأمري ، وتفعل ما أكلفك به دون نقاش أو رفض . ومن باب العدل سأسلمك نفسي أيضاً نفس المدة ، لتريني فيها الحياة معكم ، تأمرني فأطيع ، وأفعل ما تكلفني به دون نقاش أو رفض .
قال الزعيم الإرهابي متشككاً :
- هل ستنفذ كل ما آمرك به دون نقاش أو رفض؟!! .. ألا تخشى أن أكلفك بتنفيذ أحكامنا في من يخالفنا الرأي ، وهذا الحكم يكون غالباً القتل .
قال عزيز الديواني مؤكداً :
- ما دمت أنت ستنفذ ما سأكلفك به خلال الشهر الذي ستقضيه معي دون معارضة ، بالتأكيد سأقبل أنا ما ستكلفني به حتى لو أمرتني بأن أقتل دون معارضة .
- لكنك قد تكلفني بأشياء أرفضها ، فقد تقدم لي كأساً من الخمر مثلاً ، أو تدعوني إلى النساء !!
- أعتقد إذا كنت أنا قبلت أن أقتل ، فأنت يجب أن تقبل أي شيء ، فعلى الأقل سيكون أقل من قتل النفس التي حرم الله قتلها بكثير ، والأهم ، المفروض أنك تكون عالماً بأن الله غفور رحيم ، ومهما فعلت خلال هذا الشهر ، يمكنك أن تطلب المغفرة عن هذه الأعمال ، وتعود إلى طريقك ثانية الذي تعتقد أنه هو النهج الصالح .
قال الزعيم الإرهابي وقد بدا عليه الإقتناع بالفكرة :
- حسناً أيها الفليسوف .. متى تحب أن تبدأ ؟
- أنت الذي ستبدأ أولاً .
- ولماذا لا تكون أنت البادىء ؟
- أنا ليس لدىَّ ما أٍُُجبرك به لو حنثت بوعدك ، ولكن أنت تملك ما تجبرني به على طاعتك ، بدليل أنني بين يديكم الآن .
قال الزعيم الإرهابي معاتباً :
- هل أعتبر قولك هذا عدم ثقة في كلمتنا ؟!
قال " عزيز الديواني " مبتسماً وملاطفاً :
- لا داعي للمسميات من الآن .
سأل الزعيم الإرهابي :
- وكيف سنبدأ ؟
وأجاب " عزيز الديواني " :
- ستأتي معي الآن ، وسأوفر لك المسكن ، وهناك ستزيل لحيتك ، وترتدي الملابس الأفرنجية ، وسأُملي عليك ما ستفعله سواء بالهاتف أو سأحضر بنفسي لاصطحابك . ومنذ هذ اللحظة أنت ستناديني باسمي وأنا سأناديك باسم الأستاذ "حكيم " وسأقدمك للناس على أنك تمت لي بصلة قرابة .
**********
كانت الساعة تدق السابعة صباحاً ، عندما دق الهاتف ، هبت " فريدة " من نومها مذعورة ، ابتسمت عندما لم يحاول الراقد بجوارها مجرد التململ في الفراش ، وقد غرق في نعاس حالم ، وأجابت :
_ هالو .. من المتحدث ؟
_ أنا " عزيز " الديواني يا مدام " فريده " .
_ أهلاً .. أستاذ " عزيز " .
_ هل يمكنني التحدث إلى الأستاذ " حكيم " ؟
_ إنه نائم .
_ لو سمحت أخبريه بأنه الآن وفي تمام الساعة السابعة ، اكتمل الشهر ، وبأنني مستعداً للذهاب معه حسب اتفاقنا .
أجابت " فريده " بدهشة :
_ عن ماذا تتحدث يا أستاذ " عزيز " ، وإلى أين ستذهبان ؟
_ الأستاذ " حكيم " يعلم كل شيء .. من فضلك أيقظيه وأخبريه بما قلته لك .
غابت " فريدة " برهة وعادت للهاتف ثانية :
_ أستاذ عزيز ، لقد أيقظته وأخبرته وأجابني متأففاً ، أن أخبرك بأنه نسى الماضي تماماً ولن يذهب إلى هناك ثانية ، وإذا كنت تريد الذهاب فاذهب بمفردك .
اتسعت شفتا " عزيز " عن ابتسامة كبيرة وقال :
_ إذاً دعيه يُكمل رقاده ، وعندما يستيقظ أخبريه بأنني أنتظره في المقهى الذي اعتدنا أن نتقابل به الساعة الثامنة مساء .
*******
ضحك عزيز الديواني عندما سأل " حكيم " الجرسون أن يحضر له شيشة وقال :
_ لم أرك أبداً طوال هذا الشهر تدخن الشيشة .
_ لقد جربت كل شيء .. فلماذا لا أجرب الشيشة أيضاً ؟!!
_ أعتقد أنني لم أحنث بوعدي ، وطلبت من مدام " فريده " أن توقظك لنذهب معاً حسب اتفاقنا ، فلقد انتهى الشهر صباح اليوم .
قال " حكيم " أو الزعيم الإرهابي سابقاً وهو يرمق " عزيز الديواني " بنظرة احترام معبرة :
_ أنا أعلم أنك لست من النوع الذي يحنث بوعده ، وأنا الذي لا أريد العودة ثانية ، لكن ما يدهشني ، هل كنت بالفعل ستنفذ كل ما أطلبه منك حتى لو أمرتك بأن تقتل ، لو ذهبنا سوياً إلى وكرنا كما تسميه ؟!!
أجاب " عزيز الديواني " بثقة :
_ الأمر كان مستبعداً بالنسبة لي ، فلقد راهنت على كل ما تعلمته من خصائص النفس البشرية والفلسفة ، بأنك بعد الفترة التي سأجعلك تتعرف من خلالها على الحياة كما يعيشها الناس ، بأنك سترفض العودة ثانية للإرهاب .
_ نعم ما تعلمته على يدك خلال هذا الشهر ، كان بمثابة مدرسة جديدة لي في الحياة ، لم تدع شيئاً لم تعرفني به ، دعوتني للذهاب إلى كنيسة المسيحيين واستمعت إلى العظة، وذهبنا للمسجد للصلاة مع الناس واستمعت لخطبة الجمعة ، وشاهدت السينما والمسرح ، ذهبت للملاهي الليلية ، واحتسيت بضعة كؤوس من الخمر ، تقابلت مع إناس من الطبقات الراقية جداً ، شربت الشاي في منازل البسطاء جداً ، زرت المستشفيات ورأيت آلام المرضى ، تألمت لبكاء الحزانى في المقابر ، استنشقت الهواء النقي في الحدائق ، رأيت وتعلمت بالفعل ما لم أره وما لم أتعلمه طوال حياتي ، شهر كان بالنسبة لي حياة بأكملها .
_ وما رأيك في كل ما رأيت وتعلمت ؟
_ علمت أنني كنت سجين نفسي المريضة كما كتبت في كتابك ، وبأنني أمضيت الفترة الماضية كما لو كنت أعيش في غيبوبة ، وأننا لكي نعرف الله بصدق يجب أن نعيش الحياة كما هي ، ونخطأ ونتوب ، وأن كل ما رأيته خلال هذا الشهر ينطق بالحياة كما هي ، ومن تعاملت معهم وبجميع طبقاتهم هم البشر الذين خلقهم الله بكل عيوبهم ومزاياهم ، وأننا يجب أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب الآخرين .
ضحك " عزيز الديواني " قائلاً :
_ لقد تفوقت علىَّ في الفلسفة .. لكن ما أكثر الأشياء التي كان لها تأثيراً على نفسك خلال هذا الشهر ؟
_ أثر في نفسي عم " أحمد " الموظف البسيط الذي يعول خمسة أطفال ، عندما كنا في زيارته ، وانسل من وسطنا ، وغاب لفترة ، ثم عاد ، وسألته أنت ، أين كان ، وأجابك بأنه كان يصلي العشاء في الغرفة المجاورة ، وسألته أنا ، لماذا لم يخبرنا لكي نصلي معه ، وأجاب بأن عبادة الله لا تحتاج لدعوة أو تذكرة ، لأنها لو كانت موجودة بالقلب ، لتولى هو الدعوة إليها والتذكرة بها ، في أي وقت وأي مكان بلا قيد أو شرط أو مظاهر .
_ والشيء الثاني ؟
_ فريده .
_ لكنني عرفتك عليها كراقصة في ملهى .
_ نعم ، وقضيت معها ليلة ، كاتفاقنا بأن أنفذ كل ما تطلبه مني ، وفي اليوم الثاني عندما استيقظنا وكنت على وشك ترك منزلها ونسيان كل شيء عنها ، دعتني لتناول الشاي معها قبل أن أذهب ، تحدثنا ، لست أدري كيف سار الحديث بيننا ، أخرجت كل ما بداخلها ووضعته أمامي ، وأخرجتُ كل ما بداخلي ووضعته أمامها . اكتشف كل واحد ضياعه لكن بطريقة مختلفة عن الآخر . تَكشفت أمامي حقيقة ما قرأته في كتابك ، وأنني كنت أُعاند كل شيء في الحياة بالضبط كالطفل الذي يدفعه عناده أن يبول في الفراش ، كانت هناك مسببات في حياة كل واحد منا بالطبع ، وللأسف ظلت هذه المسببات تكبر بداخلنا دون علاج ، إلى أن دفعت بنا كل واحد إلى طريق خاطئ لكنه يختلف عن الآخر تماماً ، وحديثنا معاً كان كالدواء الشافي لي ولها .
_ وماذا ستفعل الآن ؟
_ سأُغير طريق حياتي ، وأول خطوة ، هي الزواج من فريدة .
_ لكنها راقصة في ملهى ليلي .
_ منذ الآن ستصبح مدام " حكيم ، وأنت بنفسك قلت أن الله غفور رحيم ، لقد اكتشفنا الداء وعرفنا الدواء ، وسنبدأ العلاج سوياً .. ودعني أهنئك بأن فلسفتك في الحياة تغلبت على نوازع الشر بداخلي التي ترسبت منذ الطفولة .
قال " عزيز الديواني " مهنئاً ومسروراً :
_ أتمنى لكما التوفيق .
قهقه حكيم وهو ينفُث دخان الشيشة قائلاً :
_ كن على ثقة أنني على الأقل من الآن لن أبلل فراشي ثانية .
تنويه : الأسماء التي وردت بالقصة ليس لها علاقة بمن تشابهت أسماءهم .
edwardgirges@yahoo.com
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :