الأقباط متحدون | الإرهـابــي والفيلسوف
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ٠٦:٥٥ | السبت ٣١ مارس ٢٠١٢ | ٢٢ برمهات ١٧٢٨ ش | العدد ٢٧١٦ السنة السابعة
الأرشيف
شريط الأخبار

الإرهـابــي والفيلسوف

السبت ٣١ مارس ٢٠١٢ - ٠٠: ١٢ ص +03:00 EEST
حجم الخط : - +
 

بقلم - إدوارد فيلبس جرجس
إندفعت السيارة "الجيب السوداء" ذات الزجاج المعتم ، خلف السيارة "الفورد الرمادية" ، التي يقودها الكاتب والفيلسوف "عزيز الديواني" ، ترافقه أسرته المكونة من زوجته وطفليه . توقفت السيارة الفورد في ساحة انتظار السيارات الخاصة بمدينة الملاهي ، وتوقفت بالقرب منها السيارة الجيب السوداء . مرات معدودة التي رافق فيها  "عزيز " عائلته في نزهة ، هذه المرة رضخ بعد أن أصرت طفلته "هند" أن يصاحبهم إلى مدينة الملاهي . أكثر شيء يزعجه دموع ابنته " هند " التي لم تتجاوز الثامنة من عمرها ، الشيء الوحيد الذي كان يفل من عزيمته الحديديه . تركهم " عزيز " مع ألعابهم مستأذناً في الذهاب إلى الكافيتريا لاحتساء فنجان من القهوة ، مازحته زوجته مسرورة لانتصار دموع " هند " وإجباره على الذهاب معهم لمدينة الملاهي ، وهو الذي يرفض حتى الذهاب للعشاء في أحد المطاعم وقالت والإبتسامة تملأ شفتيها :
- ألن تشارك الأولاد ألعابهم يا عزيز ؟
أجاب " عزيز " مبتسماً وهو يغادرهم مسرعاً قبل أن تقذفه زوجته بتهكم آخر .
- إحجزوا لي مكاناً بالإرجوحة ..
تذكر أنه لم يحضر الصحيفة من السيارة ، عرج إلى مكان انتظار السيارات قبل ذهابه للكافيتريا .  فتح باب السيارة ، لم يتمكن من مد يده داخلها لإحضار الصحيفة . شيء صلب دغدغ جانبه ، التفت سريعاً للخلف ، إصطدمت عيناه  بوجه يحمل ابتسامة مزيفة يأمره بالسير معه بهدوء ، لأنه لا يضمن المسدس الذي يوجهه من أسفل سترته إلى جانبه ، فقد تنطلق منه قذيفة قاتلة . لم يكن أمامه الخيار وهو يرى على بعد خطوات وجه ثان تكسوه مسحة شريرة يتفحصه بنظرة صارمة .
سأل عزيز وقد أربكته المفاجأة :
-  ماذا تريد ؟ !
- فقط أن تسير معي بهدوء .
-  إلى أين ؟
- لا داع للعجلة ستعلم كل شيء بعد قليل .
- لكنني تركت أُسرتي داخل مدينة الملاهي .
جذب الرجل سلسلة المفاتيح من يده قائلاً :
- نحن نعلم ، وسنرسل  مفاتيح السيارة إلى زوجتك ، نعلم أنها تجيد القيادة فلا تقلق .
قال عزيز الديواني مستسلماً :
- أنا أعلم أنه لا جدوى من المقاومة !!
قال الرجل بنبرة تحمل تهديداً خفياً :
-  وهذا ما نتوقعه من مفكر وفليسوف مثلك .
إزداد عدد ركاب السيارة الجيب السوداء المعتمة الزجاج بانضمام " عزيز " إليهم، وفر  " عزيز " على نفسه مشقة السؤال والحديث ، يعلم جيداً أنه لن يتلقى إجابة ، في مثل هذه الأحوال ، لا تزيد المهمة التي يُكلف بها هؤلاء عن القيام بمهمة الإختطاف ، وإحضارالمُختطف إلى الرأس المدبر. من هو الرأس المدبر ، وماذا يريد منه ؟ ، لا يعلم  ، قصد أن يترك عينيه تذهبا في غفوة  بالرغم من توتر أعصابه ، مرت أكثر من ساعة لم  تتوقف خلالها السيارة أو تهدىء من سرعتها . فتح عينيه على صوت مختطفه يخاطبه بلهجة مؤدبة  :
- لقد قاربنا على الوصول ، إسمح لي أن أستبدل نظارتك بهذه العصابة.
لم يجب عزيز ، استسلم للجالس بجانبه وهو يعصب عينيه ، عالماً أيضاً أنه لا جدوى من  الإعتراض ، ففي مثل هذه الأحوال لا جدوى من الإعتراض ، ولا يضمن ماذا يحدث لو أبدى حتى لو اعتراض بسيط ! . ترك ذراعه للمختطف يتأبطها ويقتاده كالأعمى ، صعد بضع درجات ، وأجلسوه برفق فوق مقعد ، أحس به من النوع المريح .  عاد النور إلى عينيه  بعد أن رُفعت عنهما العصابة  ، فوق المقعد الذي أمامه مباشرة كان يجلس شخصاً جاوز العقد الثالث ، لحيته سوداء داكنة تخطها بعض الشعيرات البيضاء ، يرتدى عباءة حريرية بيضاء اللون ، واختفى شعر رأسه أسفل طاقية بيضاء لا يبدو منه سوى سوالف  امتدت إلى لحيته . ملامح وجهه الجامدة لم تعط فرصة لشخص مفكر وفليسوف مثل " عزيز الديواني " لاستكشاف ما يدور برأسه . شبه الابتسامة التي انفرجت عنها شفتاه  فسرها على أنها نوع من الحيرة الممتزجة بالخجل  . لم ينطق الرجل بكلمة واحدة بالرغم من عيناه* اللتان لم تكفا عن التحديق في وجه " عزيز " منذ جلوسه أمامه . أشار بيده فأحضر له أحد أعوانه المنتشرين حوله كتاباً ، بمجرد أن التقطت عينا  "عزيز الديواني " العنوان المدون  على الغلاف ، تأكد من أن هذا الكتاب هو سبب مجيئه إلى هذا المكان ، لم يكن سوى آخر مؤلفاته عن الإرهاب . إذا ً فهو في ضيافة إرهابي ، موقعه في تصنيف الدرجات الإرهابية لا يقل عن درجة زعيم أو أمير كما يطلقون عليه ، كل شيء حوله يوحي بذلك ، المكان المهيء كمكتب لدرجة لا تقل عن درجة وزير ، الأشخاص الذين يتحركون بإشارة من يده ، النظرة المتجلية داخل أعينهم ، والتي تشبه النظرة الحمراء اللامعة في عيني الذئب ، الذي ينتظر الفرصة المواتية للإنقضاض على الفريسة . فتح إحدى صفحات الكتاب ولا تزال عيناه عالقة بعيني عزيز دون أدنى اختلاجة . تحركت شفتاه تتلو بصوت مرتفع الكلمات المدونة وكأنه يحفظها عن ظهر قلب : إن السبب الرئيسي الذي زاد من من حجم الإرهاب ، تضخيم العالم له ، وكأنه يمجده ويرفع من شأنه ، فلقد تبارت الدول الكبرى لأغراض سياسيه ، في إبرازه في صورة كما لو كان في قدرته السيطرة على العالم بأجمعه . واتبعت في أسلوب مقاومته العنف الزائد عن حده ، وشن الحرب عليه بطريقة غير مدروسة جيداً ، بينما كان من الأفضل اتباع  أسلوباً مختلفاً قبل اللجوء إلى العنف ، كان يجب أن تدرس السلوكيات والتكوين النفسي الذي بنيت عليه الشخصية الإرهابية ، فأنا أعتقد اعتقاداً راسخاً أنه لو تم هذا كان من السهل جداً الحصول على نتائج أفضل وذات فعالية ، من شأنها تحجيمه والقضاء على هذه الظاهرة ، أو اجتذاب قياداته للمناقشة  وحصرها في أضيق الحدود . فالشخصية الإرهابية شخصية معقدة من الناحية النفسية وتستحق الدراسة ، ومن هذه الدراسة كان يمكن الوصول إلى أبسط الحلول واستنباط أنجح الطرق لعلاجها . في اعتقادي أن زعماء الإرهاب ، بالرغم من شراستهم التي يحاولون الظهور بها ، يحملون نفسية وعقلية لطفل مسكين ،  لم يجد العناية الأسرية ولا الحنان الكافي ولا البيئة الصالحة للتنشئة السليمة  ، يلعبون مع المجتمع بنفس طريقة استخدام هذا الطفل المعقد نفسياً للعبه ، فهو يحطمها ويجد في تحطيمها شيئاً مريحاً لنفسيته ، يعطيه الشعور بأنه أفضل وأقوى ومتميز عن باقي الأطفال . بل أن هذه النفسية الغير سوية نتيجة أخطاء التربية والمعاملة ، قد تولد عنده رغبة أكيدة في العنف والعناد والتمرد ، لدرجة أنه يبول في فراشه عن قصد ليجذب النظر إليه ، ولا يألو جهداً عن الأتيان بتصرفات وسلوكيات غريبة تلفت النظر إليه . إن زعماء الإرهاب مجرد أطفال حرموا من طفولة صحيحة وآمنة نتيجة لعوامل قد تكون مادية أو تربوية أو معنوية . وعندما كبروا استهوتهم لعبة النار كنوع من التنفيث عن الكبت الذي تكون وكبر معهم . كان يجب على العالم أن يكثف جهوده لهذه الدراسات أولاً ، كخطوة رئيسية لعلاج هذه الظاهرة ، قبل أن يبدأ في استخدام العنف المطلق ، الذي زاد من حدة الإرهاب ،  ، فكلما شعروا بازدياد العنف الذي يستخدم ضدهم ، يقابلونه بعنف أكثر على نمط تحطيم لعب الطفولة على نطاق أكبر وأقوى ، إرضاءً للنفسية المريضة التي نشأوا عليها  .  توقف الزعيم الإرهابي عن القراءة ونظر نحو عزيز وهو يحاول أن يكبت نظرة غاضبة ولا يدعها تخرج خارج عينيه قائلاً :
- أعتقد أنه لا داعي للاستمرار في تلاوة كلمات أنت كتبتها بيدك ، وبصفتك كاتب وفيلسوف فبالتأكيد أنت مقتنع بها تماماً .
أجاب عزيز الديواني دون أن يطرف له رمش :
- بالضبط أنا كتبت هذه الكلمات وكما تقول بالتأكيد مقتنع بها ، بل ومؤمن بها .
قال الزعيم الإرهابي وفي عينيه نظرة توحي ببعض الإعجاب :
- هل تعلم ما الذي يبقي لك على أنفاسك حتى الآن ؟!
أجاب عزيز الديواني مبتسماً :
- أعتقد أنني كتبت عن هذا أيضاً ، في أنكم تجدون متعة ، في تعذيب ضحيتكم قبل أن تطير رأسه ، كالأطفال المرضى نفسياً عندما يحطمون اللعبة بالتدريج ، فكيف ستبدأ معي ؟! .
- أعتقد أنك أخطأت في هذه أيها الفيلسوف .. لأنني لا أفكر في أن ألعب هذه اللعبة معك ، لأنني من أشد المعجبين بكتاباتك الفلسفية ، بدليل أنني قرأت كتابك هذا بمجرد نشره ، ولم يضايقني ما كتبت ، ولو كانت هناك فرصة لمناقشتك في مكان آخر ، ما كنت سلكت معك هذا السلوك لإحضارك إلى هنا . أمرت  بإحضارك إلى هنا لإقناعك أن ما نقوم به ، هو الطريق السليم والمضبوط لتقويم سلوك العالم المعوج ، وأن ما تسميه أنت تحطيم للمجتمع ، ما هو إلا علاج لمجتمعات منحلة ، وجهاد في سبيل الدين . وبالتالي نطالبك بأن تكتب بنفس نظرتك الفلسفية عن وجهة نظرنا ، وفي حالة تخليك عن هذه القضية وعدم تنفيذ ما نأمرك به ، أعتقد أن المرة القادمة لن تكون أنت هو المقصود ، لكن ستكون ابنتك هند هي ثمن عصيانك .
علق عزيز الديواني وفوق شفتيه ابتسامة ساخرة :
- لاحظ قولك بأنك أحضرتني أو بمعنى أكثر وضوحاً اختطفتني ، لكي تقنعني بدوركم كحد زعمك في علاج العالم المعوج والمجتمعات المنحلة ، وأنا أراك بدأت بالتهديد ، وليس بالإقناع .
- دع حكمك للنهاية وبعد أن تستمع لي قد لا نحتاج لأي أسلوب للإقناع ، أو التهديد ، لكن فكرك هو الذي يقودك للإقتناع بنا .
- للأسف .. فكري بنيته عن اقتناع تام  ، وبعد دراسة كافية ، وما كتبته في كتابي ، لن أتراجع عنه ، ولن أغيره لأي سبب من الأسباب .
قال الزعيم الإرهابي وقد عادت نبرة التهديد :
-  حتى لو كان الثمن رأسك !!
قال عزيز الديواني وقد جمعت عيناه  بين نظرة التحدي واللامبالاة :
- أعتقد أن رأسي لن يزيد ثمنه عن أي رأس من الرؤوس التي طارت بسيوفكم ، وسيكون نجاحاً باهراً لأفكاري ومعتقداتي وكتابي وما جاء به عنكم .
قال الزعيم الإرهابي وقاد عاد لليونته :
- ُكتب عنا الكثير ، ولم ينقص منا شئ ، وأبواق الدعاية ضدنا لا تتوقف ، أنت بنفسك قلت أنها نوع من التمجيد لنا ، لكن في الحقيقة ما كتبته أنت له لوناً آخراً ، لأنك تناولته من الناحية الإنسانية والنفسية ، والنظرة الفلسفية البحتة للموضوع ، ولأول مرة أشعر بأن هناك كلمات تؤلم أكثر من ضربة السيف .
قال عزيز الديواني وقد بدا عل ملامحه تفكير عميق :
- علمت من حديثك أنك حاصل على شهادة جامعية ، وأحسست من كلماتك أنك تحمل ثقافة أيضاً ، فما رأيك لو عرضت عليك عرضاً قد يريحني ويريحك .
أجاب الزعيم الإرهابي وقد بدا عليه الإهتمام :
- تفضل فأنا أحب أن أستمع إليك كما أحب أن أقرأ لك .
- حسناً .. ما رأيك لو سلمتني نفسك شهراً كاملاً ، تخرج فيه من هذه القوقعة التي تسجن نفسك بها ، وتأتي معي ، أريك فيها الحياة بطريقة أعتقد أنك لم ترها من قبل . بشرط أن تأتمر بأمري ، وتفعل ما أكلفك به دون نقاش أو رفض . ومن باب العدل سأسلمك نفسي أيضاً نفس المدة ، لتريني فيها الحياة معكم  ، تأمرني فأطيع ، وأفعل ما تكلفني به دون نقاش أو رفض .
قال الزعيم الإرهابي متشككاً :
- هل ستنفذ كل ما آمرك به دون نقاش أو رفض؟!! .. ألا تخشى أن أكلفك بتنفيذ أحكامنا في من يخالفنا الرأي ، وهذا الحكم يكون غالباً القتل .
قال عزيز الديواني مؤكداً :
- ما دمت أنت ستنفذ ما سأكلفك به خلال الشهر الذي ستقضيه معي دون معارضة ، بالتأكيد سأقبل أنا ما ستكلفني به حتى لو أمرتني بأن أقتل دون معارضة .
- لكنك قد تكلفني بأشياء أرفضها ، فقد تقدم لي كأساً من الخمر مثلاً ، أو تدعوني إلى النساء !!
- أعتقد إذا كنت أنا قبلت أن أقتل ، فأنت يجب أن تقبل أي شيء ، فعلى الأقل سيكون أقل من قتل النفس التي حرم الله قتلها بكثير ، والأهم ، المفروض أنك تكون عالماً بأن الله غفور رحيم ، ومهما فعلت خلال هذا الشهر ، يمكنك أن تطلب المغفرة عن هذه الأعمال ، وتعود إلى طريقك ثانية الذي تعتقد أنه هو النهج الصالح .
قال الزعيم الإرهابي وقد بدا عليه الإقتناع بالفكرة :
- حسناً أيها الفليسوف .. متى تحب أن تبدأ ؟
-  أنت الذي ستبدأ أولاً .
- ولماذا لا تكون أنت البادىء ؟
- أنا ليس لدىَّ ما أٍُُجبرك به لو حنثت بوعدك ، ولكن أنت تملك ما تجبرني به على طاعتك ، بدليل أنني بين يديكم  الآن .
قال الزعيم الإرهابي معاتباً : 
- هل أعتبر قولك هذا عدم ثقة في كلمتنا ؟!
قال " عزيز الديواني " مبتسماً وملاطفاً :
- لا داعي للمسميات من الآن .
    سأل الزعيم الإرهابي : 
- وكيف سنبدأ ؟
وأجاب " عزيز الديواني " :
- ستأتي معي الآن ، وسأوفر لك المسكن ، وهناك ستزيل لحيتك ، وترتدي الملابس الأفرنجية ، وسأُملي عليك ما ستفعله سواء بالهاتف أو سأحضر بنفسي لاصطحابك . ومنذ هذ اللحظة أنت ستناديني باسمي وأنا سأناديك باسم الأستاذ  "حكيم " وسأقدمك للناس على أنك  تمت لي بصلة قرابة .

**********

كانت الساعة تدق السابعة صباحاً ، عندما دق الهاتف ، هبت " فريدة " من نومها مذعورة  ، ابتسمت عندما لم يحاول الراقد بجوارها مجرد التململ في الفراش ، وقد غرق في نعاس حالم  ، وأجابت :
_ هالو .. من المتحدث ؟
_ أنا " عزيز " الديواني يا مدام " فريده " .
_ أهلاً .. أستاذ " عزيز " .
_ هل يمكنني التحدث إلى الأستاذ " حكيم " ؟
_ إنه نائم .
_ لو سمحت أخبريه بأنه الآن وفي تمام الساعة السابعة ، اكتمل الشهر ، وبأنني مستعداً للذهاب معه حسب اتفاقنا .
أجابت " فريده " بدهشة :
_ عن ماذا تتحدث يا أستاذ " عزيز "  ، وإلى أين ستذهبان  ؟
_ الأستاذ " حكيم " يعلم كل شيء .. من فضلك أيقظيه وأخبريه بما قلته لك .
غابت " فريدة " برهة وعادت للهاتف ثانية :
_ أستاذ عزيز ، لقد أيقظته وأخبرته وأجابني متأففاً ، أن أخبرك بأنه نسى الماضي تماماً ولن يذهب  إلى هناك ثانية ، وإذا كنت تريد الذهاب فاذهب بمفردك .
اتسعت شفتا " عزيز " عن ابتسامة كبيرة وقال :
_ إذاً دعيه يُكمل رقاده ، وعندما يستيقظ أخبريه بأنني أنتظره في المقهى الذي اعتدنا أن نتقابل به الساعة الثامنة مساء .

*******

ضحك عزيز الديواني عندما سأل " حكيم " الجرسون أن يحضر له شيشة وقال :
_ لم أرك أبداً طوال هذا الشهر تدخن الشيشة .
_ لقد جربت كل شيء .. فلماذا لا أجرب الشيشة أيضاً ؟!!
_ أعتقد أنني لم أحنث بوعدي ، وطلبت من مدام " فريده " أن توقظك لنذهب معاً حسب اتفاقنا ، فلقد انتهى الشهر صباح اليوم .
قال " حكيم " أو الزعيم الإرهابي سابقاً وهو يرمق " عزيز  الديواني " بنظرة احترام معبرة :
_ أنا أعلم أنك لست من النوع الذي يحنث بوعده ، وأنا الذي لا أريد العودة ثانية ، لكن ما يدهشني ،  هل كنت بالفعل ستنفذ كل ما أطلبه منك حتى لو أمرتك بأن تقتل ، لو ذهبنا سوياً إلى وكرنا كما تسميه ؟!! 
أجاب " عزيز الديواني " بثقة :
_ الأمر كان مستبعداً  بالنسبة لي ، فلقد راهنت على كل ما تعلمته من خصائص النفس البشرية والفلسفة ، بأنك بعد الفترة التي سأجعلك تتعرف من خلالها على الحياة كما يعيشها الناس ، بأنك سترفض العودة ثانية للإرهاب .
_ نعم ما تعلمته على يدك خلال هذا الشهر ، كان بمثابة مدرسة جديدة لي في الحياة ، لم تدع شيئاً لم تعرفني به ، دعوتني للذهاب إلى كنيسة المسيحيين واستمعت إلى العظة، وذهبنا للمسجد للصلاة مع الناس واستمعت لخطبة الجمعة ، وشاهدت السينما والمسرح ، ذهبت للملاهي الليلية ، واحتسيت بضعة كؤوس من الخمر ، تقابلت مع إناس من الطبقات الراقية جداً ، شربت الشاي في منازل البسطاء جداً ، زرت المستشفيات ورأيت آلام المرضى ، تألمت لبكاء الحزانى في المقابر ، استنشقت الهواء النقي في الحدائق ، رأيت وتعلمت بالفعل ما لم أره وما لم أتعلمه طوال حياتي ، شهر كان بالنسبة لي حياة بأكملها .
_ وما رأيك في كل ما رأيت وتعلمت ؟
_ علمت أنني كنت سجين  نفسي المريضة كما كتبت في كتابك ، وبأنني أمضيت الفترة الماضية كما لو كنت أعيش في غيبوبة ، وأننا لكي نعرف الله بصدق يجب أن نعيش الحياة كما هي ، ونخطأ ونتوب ، وأن كل ما رأيته خلال هذا الشهر ينطق بالحياة كما هي  ، ومن تعاملت معهم وبجميع طبقاتهم هم البشر الذين خلقهم الله بكل عيوبهم ومزاياهم ، وأننا يجب أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب الآخرين  .
ضحك " عزيز الديواني " قائلاً :
_ لقد تفوقت علىَّ في الفلسفة .. لكن ما أكثر الأشياء التي كان لها تأثيراً على نفسك خلال هذا الشهر ؟
_ أثر في نفسي عم " أحمد " الموظف البسيط الذي يعول خمسة أطفال ، عندما كنا في زيارته ، وانسل من وسطنا ، وغاب لفترة ، ثم عاد ، وسألته أنت ، أين كان ، وأجابك بأنه كان يصلي العشاء في الغرفة المجاورة ، وسألته أنا ، لماذا لم يخبرنا لكي نصلي معه ، وأجاب بأن عبادة الله لا تحتاج لدعوة أو تذكرة ، لأنها لو كانت موجودة بالقلب ، لتولى هو الدعوة إليها والتذكرة بها ، في أي وقت وأي مكان بلا قيد أو شرط أو مظاهر .
_ والشيء الثاني ؟
_ فريده .
_ لكنني عرفتك عليها كراقصة في ملهى .
_ نعم ، وقضيت معها ليلة ، كاتفاقنا بأن أنفذ كل ما تطلبه مني ، وفي اليوم الثاني عندما استيقظنا وكنت على وشك ترك منزلها ونسيان كل شيء عنها  ، دعتني لتناول الشاي معها قبل أن أذهب ، تحدثنا ، لست أدري كيف سار الحديث بيننا ، أخرجت كل ما بداخلها ووضعته أمامي ، وأخرجتُ كل ما بداخلي ووضعته أمامها . اكتشف كل واحد ضياعه لكن بطريقة مختلفة عن الآخر . تَكشفت أمامي حقيقة ما قرأته في كتابك ، وأنني كنت أُعاند كل شيء في الحياة بالضبط كالطفل الذي يدفعه عناده أن يبول في الفراش ، كانت هناك مسببات في حياة كل واحد منا بالطبع ، وللأسف ظلت هذه المسببات تكبر بداخلنا دون علاج ، إلى أن دفعت بنا كل واحد إلى طريق خاطئ لكنه يختلف عن الآخر تماماً ، وحديثنا معاً كان كالدواء الشافي لي ولها .
_ وماذا ستفعل الآن ؟
_ سأُغير طريق حياتي ، وأول خطوة ، هي الزواج من فريدة .
_ لكنها راقصة في ملهى ليلي .
_ منذ الآن ستصبح مدام " حكيم ، وأنت بنفسك قلت أن الله غفور رحيم ، لقد اكتشفنا الداء وعرفنا الدواء ، وسنبدأ العلاج سوياً .. ودعني أهنئك بأن فلسفتك في الحياة تغلبت على نوازع الشر بداخلي التي ترسبت منذ الطفولة .
قال " عزيز الديواني " مهنئاً ومسروراً :
_ أتمنى لكما التوفيق .
قهقه حكيم وهو ينفُث دخان الشيشة قائلاً :
_ كن على ثقة أنني على الأقل من الآن لن أبلل فراشي ثانية .
تنويه : الأسماء التي وردت بالقصة ليس لها علاقة بمن تشابهت أسماءهم .
                                      
edwardgirges@yahoo.com




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
تقييم الموضوع :