يوسف سيدهم
خواطر متلاحقة تعصف بذهني وأنا أعايش تطورات وتداعيات كورونا سواء في مصر أو عبر العالم والتي باتت مسيطرة بشكل كامل علي الإعلام حتي أن مانشيت وطني في عددها الماضي كان …ويستمر اجتياح كورونا في اجتياح الإعلام… ولا غرابة في ذلك حيث سيسجل التاريخ أن كورونا وإن لم تكن غير مسبوقة في تصنيفها ضمن التحديات والأوبئة والأهوال التي عصفت بالبشرية عبر تاريخها, إلا أنها بالقطع غير مسبوقة في وقوعها في هذا العصر المتميز بثورة الاتصالات وتكنولوجيا الإعلام وسطوة وسائط التواصل… وذلك هو ما جعل من العالم بالفعل قرية صغيرة تتلاشي فيها المسافات والأزمنة أمام معايشة الأحداث ومتابعة الأخبار لحظة حدوثها.
وسط كل ذلك استوقفتني مجموعة من الأحداث العالمية التي ألحت علي ذهني وعندما تأملتها تبينت أن الخيط الذي يربط بينها هو عنوان هذا المقال: كورونا.. والعيب!!.. وهو ما يؤكد توجه الكثيرين بأن عالم ما بعد كورونا لن يكون أبدا مثل عالم ما قبل كورونا حيث استفاض البعض في تحليل كيف انهارت معايير قيادة العالم سواء اقتصاديا أو عسكريا أو سياسيا أمام ما اعتبرته أنا الأهم علي الإطلاق وهو أخلاقيا.. وكيف ستتم إعادة ترتيب أقطاب هذا العالم بعد كورونا بناء علي استحقاقات كل منها في جميع تلك المجالات.. وعن العيب في هذا الإطار أقول:
** الولايات المتحدة الأمريكية التي تصر دوما بكل كبرياء واستعلاء علي أنها القطب الأعظم والأحكم والأقوي في العالم, ارتبكت في التعامل مع كورونا وتلكأت بغرور وصلف في اتخاذ التدابير الحاسمة الحازمة السريعة لحماية شعبها متصورة أن المسافة الجغرافية التي تفصل بينها وبين الصين منبع الوباء تجعلها في مأمن من اجتياحه أراضيها, وكما تعودنا قبل كورونا ومنذ سنوات نزوع خطاب رئيسها إلي التعالي والانعزال عن العالم والتصادم مع الصين انزلاقا وراء المبدأ الذي استنه لنفسه ودخل به الحياة السياسية: أمريكا أولا ولم يدر أنه قاده لأن تكون أمريكا وحدها!!.. فكان أن دأب علي تنحية اسم فيروس كورونا جانبا في خطابه وحل محله اسم الفيروس الصيني في لهجة لا تخلو من عجرفة واتهام وشماتة, وطبعا أخلف ذلك قدرا كبيرا من الجرح والاستهجان لدي الصين في محنتها ولدي الكثير من دول وشعوب العالم التي كانت ماتزال تأمل في القيادة الأخلاقية الحكيمة للقطب الأقوي عندما يتطلب الأمر التقارب والتضامن والتكافل وتنحية الخلافات جانبا.. هنا لم تستشعر القيادة الأمريكية العيب, لكن ما حدث بعد ذلك تجاوز العيب واستحق الشفقة, فقد اجتاح الوباء الأراضي الأمريكية وعصف بسرعة مرعبة بالولايات من أقصاها إلي أقصاها وكشف مدي قصور النظام السياسي والاقتصادي والصحي بها عن التعامل الفوري معه, وتسارعت معدلات الإصابة بالفيروس وضحاياه حتي قفزت أمريكا إلي صدارة دول العالم في تفشي الوباء وأرقام المصابين والضحايا, بل أيضا شهدت انهيارا رهيبا للاقتصاد وخروج الملايين من سوق العمل… أتعرفون ماذا حدث وسط كل ذلك؟.. اتصل الرئيس الصيني بالرئيس الأمريكي ليعرب عن تضامنه وتكاتفه مع أمريكا ويعرض استعداد الصين لمد يد العون سواء الطبي أو العلمي أو الخدمي لإقالتها من عثرتها.. هنا تجسد أمامي معيار القيادة الأخلاقية للعالم والمواقف التي من شأنها أن تعيد ترتيب الأدوار بعد كورونا.. كما تجسد أمامي سلوك أمريكا الذي يحمله عنوان هذا المقال!!
** المجموعة الأوروبية: هذا الكيان العظيم الذي طالما نظرت إليه بإعجاب علي أنه إنجاز فذ تحقق عبر أكثر من نصف قرن من الزمان ورسخ نموذجا رائعا لكيفية إذابة جميع الاختلافات العرقية والسياسية والثقافية وتخطي سائر العوائق الجغرافية والاقتصادية والنقدية والقانونية من أجل توحيد دول أوروبا في أسرة واحدة باتت واحدة من أقوي أقطاب العالم -بغض النظر عن الخروج البريطاني منها مؤخرا- سقط للأسف هو الآخر في اختبار كورونا.. فما أن ضرب الوباء هذه المجموعة وتفشي في شعوبها بدرجات متفاوتة حتي جاء الوقت للصمود الجماعي من خلال تضامنها معا ووضع سياسات من شأنها التكاتف والتكافل, لكن كانت الصدمة سواء لدول المجموعة أو للعالم الذي يرقب التداعيات أن الدور القيادي للبرلمان الأوروبي انسحب وتفرغت كل دولة للتعامل مع الكارثة بشكل منفرد غير عابئة بدول المجموعة التي تلقت ضربات قاصمة وفي مقدمتها إيطاليا وإسبانيا.. وباتت الحدود المفتوحة سياسيا واقتصاديا وقنصليا أسوارا عالية مغلقة تحت عنوان التدابير الاحترازية.. وذلك ألقي بظلال حزينة مريرة علي إيطاليا بالدرجة الأولي والإيطاليين الذين كالوا الاتهامات للمجموعة وخاصة الدول التي طالما زعمت قيادتها لها مثل ألمانيا وفرنسا, وأسرفوا في التعبير عن خيبة أملهم في الوحدة الأوروبية التي وصفوها بأنها خذلتهم عندما كانوا في شدة الحاجة إليها… أتعرفون ماذا حدث بعد ذلك؟… أسرعت كل من الصين وروسيا -ومن بعدهما كوبا ومصر وأوكرانيا- لمد يد العون والغوث لإيطاليا والتضامن معها بشتي السبل حتي إن رد الفعل العفوي لبعض أفراد الشعب الإيطالي كان إنزال أعلام المجموعة الأوروبية عن الصواري والشرفات ورفع أعلام الصين وروسيا بدلا منها قائلين: وداعا لأصدقاء الأمس الذين تخلوا عنا ومرحبا بشركاء الغد الذين أغاثونا.
وللأسف الشديد كان كل ما استطاعته ألمانيا وفرنسا إزاء هذا المشهد أن اتهمتا الصين وروسيا بأنهما إنما تساعدان إيطاليا لتحقيق أغراض سياسية خفية!!!… وهنا عاد وتجسد أمامي سلوك المجموعة الأوروبية الذي يحمله عنوان هذا المقال!!
*** أستكمل هذه الخواطر في مقال قادم حيث أستعرض بعض التداعيات التي حدثت في مصر وتندرج تحت ذات عنوان كورونا.. والعيب وتنطوي علي تجاوزات مخلة تنطبق عليها مقولة من آمن العقاب أساء الأدب!!