تأليف – روماني صبري 
ماذا استطيع أن افعل الآن إلا أن أحب .. أحب زوجتي، أطفالي، ألهي، مدربي، حتى الذين لم التقي بهم ... أن احلم بالشهرة مجددا، حتى لا أعود لحياة الفقراء، فأنا في هذه اللحظة مدركا أشد الإدراك أنني لكم كنت بائسا حين تركت روحي تثور وتغلي حتى  أتحكم في كل شيء ، لكم عرفني الصدق الآن وصفاء النفس، أيجب أن يحتضر الإنسان ليفصح عن أجمل ما فيه ؟!، في الحقيقة أنا ملاكم شريف ونبيل، لطالما بعثت التبرعات للفقراء الذين يحبونني ويكنون لي كل الاحترام، حتى انه ذات يوم انحنى واحدا منهم وقبل يدي مرارا، وأنا متكئ بظهري على كرسي مكتبي، فإذا بي أنهض وانهره واطلب منه ألا يقوم بالانحناء لأحد مرة أخرى، لاشك أن ما فعلته كان الصواب بعينه، وأن ذلك اليوم سيظل محفورا بذاكرة الرجل حتى يعرفه الموت، ولما لا وأنا انحنيت لأقبل يده، لكم شعر بالخجل وقتها فأفرط في البكاء... إن لم يغيبني الموت سأرفع الوصاية عن أطفالي، حتى يلعبون ويبصقون على وجهوهم متى يحلو لهم، وأن وبختهم والدتهم أسرع  أناشدها بالتوقف عن ذلك، فأخذ اقبلها من شفتاها الجميلتين أمامهم، ثم نذهب على مهل صوب غرفتنا، وحين نصل نأخذ نتضاجع كثيرا، فأقول لها حين ننتهي : في مثل هذا الجو الجميل أنت جميلة يا زوجتي وستظلين كذلك إلى الأبد، بعدها ربما تنطق تقول كما تعودت دائما أن تثرثر : وأنت زوجي حبيبي لطالما اهتممت بي منذ كنا فقراء، قبل أن تعرفك الشهرة"، فأعود اقبلها وهي راقدة على جنبها الأيسر حتى أكاد ارتعش من بساطتها التي لم تفقدها حتى الآن.
 
ذات يوما تصدق علي أحد الأثرياء وأنا أتكبد مشقة الفقر في طفولتي، تمنيت أن اقتله، كان رجل دميم الطباع، بدين بكرش متدلي، نرجسيا لكنه رغم ذلك لم يفكر حتى بينه وبين نفسه أن يهين كرامتي لكم كان عطوفا معي !، على أي حال وجب على الفقراء أن يروا مثل هؤلاء، مثلما راني الرجل الذي أتيت على ذكره فقبل يدي منحنيا ... حقا كنت فقيرا معدما ابن لأب حقيرا سكيرا رفض التعمق في روحه القذرة، كان يستيقظ في الصباح ويبصق البلغم من فمه في منديل قماش شديد القذارة، وكنت أرى في كثير من الأحيان والدتي وهي تقول له :" لست خجلة كونك زوجي ولا لأنك لا تقدر قيمتي، فالفقراء للفقراء في النهاية وأنا احبك على أي حال وليس في حبي لك أي تصنع يا بائع الأحذية المستعملة .. رباه كم برعت هذه السيدة في تحويل العفن إلى معاني جميلة مقبولة الهضم على الروح !.
 
حين انتهيت من توزيع الطعام على الفقراء صافحت الرجل الذي حدثتكم عنه، والتقط لنا مدير أعمالي صورة فوتوغرافية، كنا بالليل وكانت الأمطار تهطل دون رحمة، فكلفت احد الموظفين باستئجار أتوبيس حتى يقل هؤلاء الإخوة إلى منازلهم، وعلى حين فجأة ناديت الموظف فلبى وهو يستدير إلى فقلت له :" لا لا لا تستأجر أتوبيس ، بل أشتري لنا واحدا ، بالحق قلت له لنا لا لي" .. أن تكون واسع الثراء فأنت بذلك تستطيع شراء أي شيء وفي أي توقيت حتى في الليالي الشتوية القاسية، وأنا لا أدين نفسي كوني نرجسيا، عيشوا بكيفية ترضيكم، وها أنا أصلي الآن إلى الخالق حتى تكونوا أفضل مني ... الله وحده يدرك كم اعشق رياضة الملاكمة التي لازالت تتعرض لانتقادات شديدة كونها تحث على الكراهية والعنف حقا كم كدت اقتل المنافسين لاسيما أن شعرت بقوة الخصم، أن عدت للملاكمة سأكون رائق المزاج سأسر كثيرا، سأكون أكثر قوة وجراءة وتدميرا للمنافسين، وبعد فوزي عليهم سيغلبني الشعور بالشفقة عليهم فأخذ ارفع أيديهم وأحييهم أمام الجمهور، الملاكمة الملاكمة والملاكمة .. من ينتشلك من الفقر هو والدك الروحي، في النهاية الموت سيسقط الكل ، يجب علينا مقابلته وبحوزتنا ما جنيناه من انتصار.
 
لم يخسر هذا البطل أي مباراة قط إلا واحدة ، لقبوه بالمنتصر وصاحب القبضة سعيدة الحظ، في مباراته الأخيرة وجه قبضته القاضية لخصمه الجديد العنيد، فلم يسقط مثل باقي الخصوم، يلهث كئيبا، بينما سقط هو حين سدد له الخصم القاضية في الجولة العاشرة، سقط ولم يشعر بأي شيء، كأن جبل احتضنه على حين فجأة، وبعد ثوان تذكر، بدأ يفيق وكان الحكم أنهى المباراة لصالح المنافس، بينما هو كان لا يزال يفكر  بأنه هل علية أن ينهض ويستكمل القتال ويصارع جسده المنهك ورأسه التي تدور مثل ذبابة أخذت تهذي في حركاتها كونها اشتمت مبيد حشري فعال... كشمعة تذوب ببطء كان البطل أيضا، نهض واختص خصمه وهو يتمايل فيمسكه الحكم :" أنت خصم ولست صديق أيها الوغد وكل ما حدث الليلة طبيعي ومألوف ... في تلك الحلبة يتصارع الرجال كي يسقط واحدا ويفوز احدهم .. ها أنا أتحدث ولم تخرسني ضربتك القاضية، أنا أحدثك بكامل قواي وأنت حقيرا لا تمت لي بأي قربى، خصومي حين كنت أسقطهم سرعان ما يشعرون أنهم يقفون فوق الفراغ ! من هول وقوة قبضتي، عكس قبضتك أيها المغفل.
 
عانقه الحكم كما يفعل الحكام دائما عند هزيمة احد الملاكمين، وشرع مدربه في البكاء وهو يحتضنه ويناشده بالتوقف، لان ثرثرته ستحسب عليه، فالكاميرات تسجل والصحفيين الرياضيين بالطبع سيشعلون الدنيا،  قال في قرارة نفسه هيا ردد " أنت بخير .. ما حدث امرأ طبيعي"، شعر بأنة يتصنت علي نفسه ، وكأن غضبه يراقب غضبه ، والكلمات المنطلقة من الجمهور المرحبة بالبطل الجديد تمزق كل شيء داخلة ، ظل يقول ورجاله حوله : سقط البطل وقام ها أنا واقف أمامكم هيا المسوني وعلى جمهوري عدم الغضب، إن لم استعيد منه الحزام سأقدم على الانتحار أقسم على ذلك.
 
عندما يسقط الرجال يخرفون ويثرثرون ويشعلون الحرب، هكذا ما ظن الجمهور ، الرجال لا يستطيعون التعايش مع الهزيمة، لذلك لم يمارس الحب مع زوجته في تلك الليلة الدامية، ليس لأنه منهك بل لأنه سقط،  لم كذلك لم يلعب مع أطفاله الغميضة قال لهم "قد سقطت"، حاول أن يصنع شجار مع مياه الأمطار التي تسربت من الباب ، ومع زوجته مستغلا الطعام الذي أعددته ظنا منها انه طعام سيتناولونه في الليل احتفالا بالنصر، على حين فجأة  اخترقت قبضته صدر الديك الرومي، حاول تحطيم كل شيء كي ينهض ثانية ويمحو ذلك العار، قال للرب في صلاته :" أنت الوحيد الذي يعلم كم كنت أفرط في السعادة والغبطة عندما أري خصومي يتألمون، ها أنا اشرب من نفس الكأس المر، حتى تكون الحياة طبيعية ؟ أم انك لا تلتفت لتلك الأشياء أيها الخالق ؟! .
 
 
كان يجب أن يلتفت من البداية أن مساعده يقوم بتمشيط شعرهعليه المجعد بالسيشوار في المناسبات العامة ، وان الديك الرومي في الكريسماس يحتاج لسكين حاد ، وان البطل السينمائي يحتاج إلي دوبلير، والكثير من الخطب البلهاء التي يلقونها هؤلاء على الجمهور، كان عليه أن يدرك كل ذلك وبعدها يسقط ليموت في منزله شابا كما حدث بالأمس وهو يحتضن حزام بطولة العالم الذي لم يخسره بعد الهزيمة أبدأ، قد تصدر عناوين الصحف " البطل الذي سقط مرة واحدة كي لا يسقط بعدها أبدا، على أي حال ترك هذا الرجل رسالة جميلة لعائلته أتيت على ذكرها في البداية، لذلك لا يهم أي مرض قتله.
"تمت"