مؤمن سلام
بعد 117 عام من الجدل الفكري بين فرح أنطون ومحمد عبده حول فصل الدين عن الدولة، مازال الجدل مستمر مستخدما نفس المقاربة، فالعلمانيين يروا أن خلط الديني بالسياسي لابد أن يقود للاستبداد وفرض وصاية على عقيدة وفكر الانسان ما يؤدي إلى تعطيل ملكات الابداع لدى أفراد المجتمع وهو ما ينتُج عنه تخلف المجتمع بشكل عام، وأن الإسلام ليس استثناء في الأديان، وبالتالي ففرض الفقهاء لوصايتهم على المجتمع والدولة لابد أن يؤدي إلى تراجع الأمة المصرية حضارياً. على الجانب الأخر يُصر رجال الدين الرسميين ومعهم تنظيمات الاسلام السياسي، أن الاسلام يختلف عن سائر الأديان وأن تدخل رجال الدين الاسلامي في الشأن العام لن يؤدي إلى الكوارث التي أدت إليها في الأديان الأخرى، بل على العكس خلط الاسلام بالسياسة هو الذي يؤدي إلى نهضة المجتمع.
وهو ما يجعلنا نسأل لماذا استمر هذا الجدل حتى الآن ولم ينجح العلمانيين في حسمه لصالح الدولة العلمانية؟
استمرار هذا الجدل على مدار أكثر من قرن من الزمان، يعود في الأساس إلى الخطاب العلماني الذي لم يدرك حتى الأن أن الصراع مع الأصولية الدينية ليس صراعا على تأويل الدين ولكن صراعا على دور الدين في المجال العام. إذ أن المتابع للخطاب العلماني سيجده في الأغلب ينطلق من منطلقات دينية تحاول اثبات وجود جذور اسلامية للأفكار الحداثية والتنويرية، وفي نفس الوقت اثبات خطأ أطروحات الاسلام السياسي باستخدام اجتهادات فقهية قديمة أو حديثة أو تأويلات للنص القرآني.
أى ببساطة لقد أصبحت العلمانية المصرية وكأنها مذهب ديني جديد يتبني آراء وتأويلات وتفسيرات للدين مغايرة لتلك التي يتبناها الإسلام السياسي، وليست تيار فكري يدعوا لفصل الدين عن الدولة، لكى يُصبح الدين شأناً فردياً، ولهذا استمر الجدل 117 عام وسيستمر مالم يرُاجع العلمانيون خطابهم.
فعلى العلمانيين أن يكونوا واضحين في أن الخلاف مع الأصولية الإسلامية هو خلاف على مرجعية النص في الحياة العامة وعلى سلطة النص على العقل. فاذا كان الإسلاميين رسميين وغير رسميين يروا أن النص هو مرجعية الواقع السياسي والاقتصادي والإجتماعي، فالعلماني يرفض هذه المرجعية بغض النظر عن صحة سند النص وبغض النظر عن تأويلاته وتفسيراته، بمعنى أن العلماني لا يرفض النص لكونه ضعيف أو موضوع بل لكونه غير موافق للواقع الراهن، ولا حاجة له في إدارة شؤون الحياة العامة للمجتمع، وبغض النظر عن وجود تفسيرات وتأويلات لهذا النص قد تتوافق مع الفكر العلماني أو لا تتوافق، فاستخدام هذا الجدل الفقهي حول السند والتفسير هو ببساطة اعتراف بمرجعية النص في الشأن العام، وهو ما يعني اتباع العلمانيين لنفس المنهج الفكري للإسلام السياسي، وهذا على عكس الحقيقة حيث يرفض العلمانيين هذه المرجعية باعتبار أن مرجعية الشؤون العامة للمجتمع هى العقل، فالواقع متغير بتغير الزمان والمكان والنص ثابت لا يتغير، لهذا فهو لا يصلح كمرجعية لهذا الواقع، فالمرجعية فقط هى العقل القادر على قراءة الواقع المتغير والقادر على تحليله ومعرفة أسباب أزماته ومشاكله وبالتالي يكون قادر على تقديم حلول تتوافق مع الزمان والمكان وقادرة على السير بالمجتمع نحو الأمام.
هذا المنهج العلماني "بما لايخالف شرع الله"ماهو إلا تسليم وإقرار بسلطة النص على العقل،مايعني الهزيمة المسبقة للعلمانية في مواجهة الأصولية الدينية. وهو ما يتنافى مع التنوير الذي يُعرفه كانط "“هو تحرر الفرد من الوصاية التي جلبها لنفسه. والوصاية هي عدم قدرة الفرد على استخدام فهمه الخاص دون توجيه من الأخر.و ليس القصور العقلي هو السبب في جلب الوصاية، بل السبب انعدام الإقدام والشجاعة على استخدامه [أي العقل] دون توجيه من الأخر. تشجع لتعلم! “فلتكن لديك الشجاعة لإستخدام عقلك الخاص!“ هذا هو شعار التنوير." أى أن لا يكون سلطان على العقل إلا العقل، سواء كان سلطان نص أو رجل دين أو فيلسوف أو زعيم. وبذلك عندما يدخل العلماني في هذا الجدل حول تفسير النص هو ببساطة ينسف شعار التنوير كما ذكره كانط، وعندما يتحدث عن التنوير يُصبح فاقداً للمصداقية.
أيضاً، عندما يدخل العلماني في جدل حول تفسير وتأويل النص، فهو يُعزز دور رجل الدين في المجتمع ولا يُضعفه، ويؤكد على دوره في الشأن العام. فعندما يدخل العلماني في جدل ديني مع رجل الدين فغالباً ما سينحاز المتابع للحوار لرجل الدين باعتباره صاحب التخصص والمسؤول عن شرح وتفسير النصوص الدينية وسيعتبر العلماني مجرد دخيل يتكلم فيما لا يُحسن. وتكون الأزمة أكبر والمشكلة أعوص عندما يستعين العلماني برجل دين ويُسوقه باعتباره شيخ مستنير أو مُصلح ديني، فهو هنا واقعياً يُسلمه قياد المجتمع بدلاً من أن يعزله في دار عبادته، وغالباً ما يكون رجل الدين هذا إصلاحي منفتح في مسألة ومحافظ منغلق في مسائل أخرى، فنكون بالفعل قد ساهمنا في تعزيز سلطة رجال الدين على المجتمع، وبالتالي تغييب عقول الأفراد وانغلاق المجتمع على نفسه.
قد يجادل البعض هنا بأننا بحاجة للإصلاح الديني لكى نعبر من الدولة الدينية إلى الدولة العلمانية، وأن ما يقوموا به هو مساهمة في هذا الإصلاح الذي يخدم هذا التحول نحو الدولة العلمانية. نستطيع القول أن هذا كلام حق يُراد به باطل، نعم الإصلاح الديني الحقيقي الذي يؤدي إلى علمنة الإسلام مطلوب؛ أى أن يكون دين بدون دولة، عقيدة بدون شريعة، مُصحف بدون سيف، مطلوب ويساعد ويُسهل الطريق نحو الدولة العلمانية، لكنه يظل مُهمة رجل الدين وليس المُثقف العلماني. ولكن لأن لا أحد يتنازل عن سلطته المُطلقة إلا تحت الضغط، ولأن رجال الدين لن يتراجعوا عن تدخلهم في الشأن العام إلا بمقاومتهم، ولن يُصلحوا فكرهم وفقههم إلا إذا شعروا بخطر الإنقراض أو خطر الثورة عليهم، هنا تحديداً يكون دور المُثقف العلماني.
فدور العلماني في الإصلاح الديني ليس الإجتهاد الديني عن طريق إعادة تفسير وتأويل النص، ولكن في ممارسة الضغط على رجال الدين لإحداث هذا الإصلاح الذي يُخرج الدين من الحياة العامة. وممارسة هذا الضغط لا يتمثل بكتابة المقالات والكُتب أو مُطالبة الدولة بفرض الإصلاح الديني، لكن يكون بطرح التحديات الفكرية والقضايا الفلسفية والنقد العلمي للأطروحات الدينية وصولاً إلى نقد النص الديني ذاته. هذا التحدي الفكري لرجال الدين سيجعلهم بمرور الزمن أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الإصلاح والتطور من أجل الإستمرار والبقاء، أو الجمود والإنغلاق ليلقوا المصير المحتوم لكل ما لا يتطور وهو التراجع والإنقراض. أى أن على رجل الدين أن يلحق بركب الحداثة التي تُمثل العلمانية تعبيرها الثقافي كما يقول عالم الإجتماع الفرنسي آلان تورين في كتابة ما الديمقراطية "العلمانية هى التعبير الثقافي عن الحداثة، والديمقراطية هى التعبير السياسي عنها، واقتصاد السوق هو التعبير الاقتصادي."، وذلك حتى لا يجد نفسه واقفاً وحيداً وقد تجاوزه الزمان والتجربة الإنسانية.
وأخيراً، لا يوجد علمانية بما لا يخالف شرع الله، العلمانية هى منهج تفكير إنساني وتعامل مع واقع مُتغير ومُتبدل عبر الزمان والمكان، وبالتالي قد تتوافق مع شرع الله في لحظة ما، وقد تتصادم مع هذا الشرع في لحظات أخرى، وليس على العلماني أن يسعى للتوافق أو التصادم، عليه فقط أن يُعمل عقله وفكره في الواقع الذي يعيشه بدون النظر إلى موقف الشريعة من هذا الواقع وهذا الفكر، ودون خوف من أن تصطدم أطروحاته مع هذه الشريعة. أما ما يتعلق بالعقيدة فهذا لا يخُص العلماني في شيئ إلا أن يكون مُتخصص في دراسة العقائد الدينية، وأفضل ما يُعبر عن موقف العلماني من العقائد الدينية هو مقولة بوذا "اعبد حجرا لو شئت لكن لا ترميني به".