كان الإمام على بن أبى طالب، رضى الله عنه، يعتبر نموذجاً للشجاعة والتعقل والحكمة، حتى عُرف بأنه «باب الحكمة».

 
ومن أهم علامات الحكمة أن لا تتحول شجاعتك إلى تهور يجعلك تتجاوز ما يُعرف اليوم فى العلوم السياسية بـ«حدود القوة»، وهى مكون أساسى من مكونات إدارة الصراعات وبناء العلاقات الدولية.
 
لذلك كله يبقى دائماً لدىّ، ولدى من يتعاطفون بإخلاص مع الشعب الإيرانى، المسلم، الجار، الشقيق، شعور بالقلق والحسرة معاً.
 
أخطر ما فى العقل السياسى الإيرانى هو الإصرار على تجاوز حدود القوة بما أوصل البلاد والعباد فى ذلك البلد المهم إلى الانعزال عن التقدم والعصرية والرفاهية.
 
أمر إيران يهمنا لأن تفجر الوضع هناك يفجرنا جميعاً!
 
آخر القصص والأفعال المحزنة لإدارة إيران للأزمة هى عملية التحرش البحرى التى قامت بها زوارق الحرس الثورى مع بارجتين أمريكيتين فى مياه الخليج العربى.
 
تقول التقارير إن 11 زورقاً تابعاً للحرس الثورى، وليس لبحرية الجيش الإيرانى، اقتربت بشكل استفزازى من بارجتين أمريكيتين تقومان بدورية بحرية فى المنطقة، تم الاقتراب بشكل لصيق؛ 50 قدماً من البارجة الأولى، وعشر أقدام من البارجة الثانية.
 
هذا العمل، الذى يعتبر نوعاً من التحرش العسكرى المتعمد، كان من الممكن أن يضع الزوارق الإيرانية كهدف سهل للبوارج الأمريكية بسبب قرب الهدف، أى وقوعها بسهولة فى مرمى النيران، ولاختلاف نوعية تسليح البوارج التى تتفوق على الزوارق.
 
ومن ستر الله أن الحادثة مرت على خير وسلام، ولكن تداعياتها لم تتوقف عند ذلك.
 
أمس الأول، صرح الرئيس دونالد ترامب، فى مؤتمره الصحفى اليومى، تعقيباً على هذه الواقعة، بأنه أعطى أوامره الصريحة إلى القوات الأمريكية العاملة فى مياه الخليج بالتعامل المباشر والفورى مع أى تكرار لمثل هذا الأمر.
 
وقال «ترامب» مهدداً الإيرانيين: «لن نسمح للإيرانيين بتكرار تهديد سفننا، إن هذا الأمر يعتبر تهديداً لسفننا وبحارتنا العظام، لذلك سوف ننسفهم نسفاً».
 
وقال العميد أبوالفضل شكارجى، المتحدث باسم القوات المسلحة الإيرانية، تعقيباً على هذا الحادث: «بدلاً من التسلط والتنمر على الآخرين يجب على الأمريكيين إنقاذ قواتهم المصابة بفيروس كورونا».
 
الفعل لا مبرر له، والتوقيت لهذه المواجهة خاطئ تماماً، فإيران تعانى بشدة من 3 ضغوطات كلها شديدة القسوة:
 
1- عقوبات اقتصادية خانقة منذ أشهر طوال.
 
2- تفشى وباء الكورونا بشكل أظهر ضعف الإمكانات الصحية فى البلاد، ما سبّب ضحايا قياسية، حسب الأرقام الرسمية فإن هناك 5200 حالة وفاة و85 ألف إصابة.
 
أما التقديرات الدولية فهى تتهم النظام الإيرانى بإخفاء الأرقام الحقيقية، وتقول -حسب روايتها- إن هناك أكثر من 15 ألف وفاة وأكثر من مليون إصابة.
 
3- استمرار رفض الإدارة الأمريكية تخفيف العقوبات على إيران ولو بشكل جزئى مراعاة للوضع الإنسانى الذى يعانى منه الشعب الإيرانى الصبور من معادلة الحاجة والفقر والبطالة والوباء فى آن واحد.
 
وفى ظل ذلك التوقيت تقوم إيران بإطلاق قمر صناعى عسكرى، ما دعا وزير الخارجية الأمريكى، مايك بومبيو، إلى اعتبار هذا العمل خرقاً فاضحاً لقرار مجلس الأمن الدولى رقم 2031.
 
من هنا لا أعرف بالضبط إلى أين يريد أن يصل صانع القرار الإيرانى بالأمور؟ فأكبر الكوارث أن يكون تحامق إيران رداً على حماقة «ترامب»، وتصبح المسألة من منا أكثر جنوناً!
 
إذا كان من يفكر فى إيران بهذه الطريقة معتقداً أن التصعيد والتصلب هو الحل المناسب للتعامل مع «عقلية ترامب وسلوكه السياسى» فإنه مخطئ تماماً.
 
«ترامب» مقاول سياسى، يبيع، يشترى، بحاجة إلى ما يدعمه فى معركته الرئاسية، وقد يكون تحقيق عمل عسكرى منفرد فيه مكسب سياسى له.
 
كان «ترامب» يسعى، وما زال، إلى التقاط صورة فوتوغرافية له وهو يصافح الرئيس الإيرانى حسن روحانى كجزء تسويقى له فى حملته الانتخابية، إلا أن «طهران» رفضت إعطاءه ذلك، مراهنة على أن احتمالات فشله فى الرئاسة أكبر من احتمالات فوزه.
 
«حدود القوة» هى مسألة جوهرية فى سلوك أى نظام فى ظل هذا العالم المضطرب، المرتبك، المأزوم.
 
يتعين على صانع القرار فى «طهران» أن يحسن قراءة الوضع العالمى، وتداعيات أزمة كورونا، وتفكك الاتحاد الأوروبى، وانكفاء روسيا، ودخول الصين مرحلة محاسبتها على انتشار الكورونا.
 
لذلك كله يتعين على صانع القرار فى «طهران» أن يكون أكثر حكمة وتعقلاً، ويعيد حساباته وسلوكياته السياسية، ولا يتصرف وكأن العالم ما زال كما هو لم يتغير بشكل يستلزم تغيير قواعد الاشتباك، وأساليب السياسة.
 
ولتنظر المرجعيات السياسية والدينية جيداً إلى حقائق الأمور كما هى الآن. ولنتأمل بعمق قول الإمام على، رضى الله عنه: «نقل الصخور من موضعها أهون من تفهيم من لا يفهم».
نقلا عن الوطن