بقلم- القس نصرالله زكريا

سألني شابٌ ذات يوم قائلاً: إن الصليب ما هو إلا أداة التعذيب التي عُذِّب ومات عليها السيد المسيح، فلماذا يؤمن المسيحيون بالصليب ويتخذونه علامة وشعارًا لحياتهم؟ هل من المعقول أن يُخلِد إنسان الأداة التي قُتِل عليها أعز عزيز لديه؟ بل أليس من الغريب أيضًا أن الرسول "بولس" يدعو الصليب قوة الله؟ فكيف يكون الصليب قوة الله بينما في الحقيقة هو الأداة التي مات عليها المسيح؟ 
حقًا، لقد عرف التاريخ الصليب كأداة تعذيب وإعدام، حيث كان الصليب في الحضارات القديمة يعني الموت، وأن الإنسان المصلوب عليه لابد وأنه قد أذنب ذنبًا لا يستحق لأجله الحياة، ولا مفر من إعدامه، وكان المصلوب قديمًا ملعونًا من الله والبشر.
 
وقد عرف اليهود قديمًا عقوبة إعدام المذنب بتعليقه على خشبه، وسجَّل لنا العهد القديم هذا الفكر قائلاً: "وَإِذَا كَانَ عَلى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا المَوْتُ فَقُتِل وَعَلقْتَهُ عَلى خَشَبَةٍ فَلا تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلى الخَشَبَةِ بَل تَدْفِنُهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لأَنَّ المُعَلقَ مَلعُونٌ مِنَ اللهِ" (تثنية 21: 22-23).
وعرف الرومان أيضًا الصليب كوسيلة تعذيب وإعدام، إذ كانوا يعدمون المذنبين والمجرمين العبيد فقط بالموت صلبًا؛ لأن الروماني لا يُصلب، فهو أرقى وأشرف من أن يُصلب حتى لو كان مجرمًا، لقد كانت كلمة الصليب قبل أن يأتي المسيح لعالمنا ويموت مصلوبًا لأجلنا لا تعني إلا أداة تعذيب وقتل وإعدام.
إذًا فإن كلمة الصليب في ذاتها تستحضر للذاكرة الإنسانية مشاهد الموت والقتل، وهذا ما كانت تعنيه كلمة الصليب عند اليهود واليونانيين، لذلك فإن الرسول "بولس" لم يكن يقصد بكلماته هذه "صليبًا من خشب" أيًا كان نوع الخشب المستخدم في صنعه، ولم تكن كلمة الصليب بهذا المعنى لتصبح عثرة لليهود أو اليونانيين.
 
فما الذي كان يقصده "بولس" بقوله: "فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ"؟ هل كان يقصد الصليب الخشب؟ أم كـان يقصد المسيح المصلوب؟ وما هو القصـد بقوله: أن كلمة الصليب.. قوة الله؟!
من الواضح والطبيعي أن الرسول "بولس" لم يكن يقصد خشبة الصليب، لكن قصده الأساسي من قوله "كلمة الصليب" "شخص المصلوب ذاته" و"رسالة الصليب".. إنه شخص المسيح المصلوب الذي عُلق على خشبة، وآمن به تلاميذه، ونادوا بأنه هو المسيح المنتظر، الذي جاء ليخلص البشرية من خطيتها ويفتح طريقًا للخاطئ ليعود لله.. كانت هذه الرسالة هي العثرة أمام أفكار اليهود، وأذهان وعلم وحكمة اليونانيين.
 
كما أن كلمة "قوة" تأتي في اللغة اليونانية من الأصل "ديناموس"، والتي تأتي منها كلمة "دينامو Dynamo"،  ومن المعروف أن الدينامو هو مولد الطاقة، والصليب بهذا المعنى هو مصدر ومولد الطاقة لحياتنا المسيحية. كذلك كلمـة "ديناموس" اليونانيـة والتي تُترجم قــوة، تأتي منها الكلمـة  Dynamite  "ديناميت"، وجميعنا يعرف ما للديناميت من قوة، وهنا يستخدم الرسول "بولس" لكلمة قوة الله ذات الكلمة اليونانية "ديناموس"، فيقول: "فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ"، فالصليب قوة للتفجير والخلاص من الخطية وأثارها وفي ذات الوقت مولد للطاقة وحافز للاستمرار والنمو في الحياة المسيحية.
 
وفي الصليب قوة الله التي أظهرها لنا شخص المصلوب، وهنا نرى قوة الله المخلِّصة، المُغيرة، ويمكننا أن نرى هذه القوة تعمل في اتجاهات مختلفة، من جهة الإنسان، ومن جهة العدو أيضًا.
1) من جهة الإنسان: لقد ظهرت قوة الصليب، قوة المصلوب في أن الله:
أ) سامحنا بجميع خطايانا.. هذا ما يؤكده لنا "بولس" حينما يقول: "وَإِذْ كُنْتُمْ أمْوَاتًا فِي الْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ، أحْيَاكُمْ مَعَهُ، مُسَامِحـًا لَكُمْ بِجَمِيعِ الْخَطَـايَــا" (كولوسي 2: 13، 14)
ب) وهب لنا الحياة الأبدية، لأنه: "كَمَا بِخَطِيَّةٍ وَاحِدَةٍ صَارَ الْحُكْمُ إِلَى جَمِيعِ النَّـاسِ لِلدَّيْنُونَةِ هَكَـذَا بِبِرٍّ وَاحِدٍ صَارَتِ الْهِبَـةُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ لِتَبْرِيرِ الْحَيَاةِ" (رومية 5: 18).
 
ج) منحنا التحرير.. قال يسوع: "وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ .. فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الاِبْنُ فَبِـالْحَقِيقَـةِ تَكُـونُونَ أَحْـرَارا" (يوحنا 8: 32، 36).
د) محا الصك الذي كان علينا: "إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّراً ايَّاهُ بِالصَّلِيبِ" (كولوسي 2: 14).
هـ) صالحنا مع الله: "وَأَنْ يُصَـالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِـلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ" (كولوسي 1: 20)، لأن "اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ" (2كورنثوس 5: 19).
و) منحنا أن نحيا ونعيش القداسة، وأن نأتي لمحضر الله بالقداسة. يقول: "قَدْ صَالَحَكُمُ الآنَ فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِالْمَوْتِ، لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِـلاَ لَـوْمٍ وَلاَ شَكْـوَى أمَامَهُ" (كولوسي 1: 22).
 
2) من جهة العدو: فإن قوة الصليب، بل دعوني أقول قوة المصلوب، تتجلى بكل وضوح في أنه:
أ) جرد السلاطين وأشهرهم جهارًا.. "إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أشْهَرَهُمْ جِهَـارًا، ظـَافِرًا بِهِمْ فِيهِ (أي في الصليب)" (كولوسي 2: 15).
ب) بموته وصليبه وقيامته الظافرة باد آخر عدو يبطل، وهو الموت (1كورنثوس 15: 26)، ويضيف كاتب الرسالة إلى العبرانيين بأن موت المسيح لم يبد الموت فقط، بل أباد مَن له سلطان الموت، أي إبليس "فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ" (عبرانيين 2: 14-15).
ج) بصليبه، وموته والإيمان به، أعطاناً أن نغلب العالم (1يوحنا 5: 4)، وأن نهزم الجسد وشهواته، لأن كل من اتخذ المصلوب نصيبًا، فقد صلب الجسد مع أهوائه (غلاطية 5: 24)، فحق لنا أن نمشي في موكب نصرته كل حين، ونظهر رائحة معرفته في كل مكان (2كورنثوس 2: 14).
ليت لنا ونحن نفكر في المسيح المصلوب، أن نترنم مع "بولس" الذي اكتشف قوة الله المعلنة في الصليب، فلا نعود نرى في المصلوب أو الصليب الهزيمة والضعف، وننساق وراء المنطق البشري للقوة، بل لنر في الصليب قوة الله، القوة المخلِّصة، القوة المانحة لنا حياة، القوة الدافعة لنا بأن نحيا القداسة التي تُرضي الله، القوة الرافعة لنا فوق الأزمات والضيقات، وأننا مع المسيح المصلوب ننضم لجيش الغالبين، المنتصرين، في كل مكان وكل زمان.