د. أحمد الخميسي
يحكي جابريل جارثيا ماركيز إنه عند استيقاظه صباح أحد الأيام في سريره بمكسيكو قرأ في إحدى الصحف مقالا يفيد أنه ألقى محاضرة أدبية مطولة أمس في مدينة" بالمادي" على الجانب الآخر من المحيط، وأن المقال اشتمل على تفصيل دقيق لما جرى وقدم موجزا بديعا للمحاضرة. ولم يجد ماركيز عيبا في المقال المنشور سوى أن ماركيز لم يكن في مدينة " بالمادي" تلك، لا أمس، ولا خلال العشرين سنة الماضية، كما أنه لم يلق في حياته كلها محاضرة واحدة في موضوع أدبي! يأتي ذلك في كتاب ماركيز " كيف تكتب الرواية" ترجمة صالح علماني. ويحكي ماركيز في السياق نفسه أن المصادفة قادته أكثر من مرة لقراءة لقاءات صحفية معه لم تحدث على الإطلاق، لكنها على حد قوله كانت تعبر عن أفكار ماركيز وذوقه الشخصي وأفراحه وأتراحه سطرا بسطر! والظاهر أنه أصبح شائعا أن يشتغل بعض الصحفيين الشباب باختلاق أحداث لم تقع ولقاءات لم تتم وأخبار بلا اساس لمجرد أن ذلك التلفيق أسهل من التفتيش عن قضايا وهموم حقيقية، كما أنه من الناحية الصحفية أكثر جاذبية وقدرة على لفت الأنظار. في هذا السياق صارت تغمر بعض الصحف بغزارة بأخبار وتحقيقات لا أساس ولا مصدر ولا مرجع لها سوى مزاج الصحفي المشعشع. وقد قرأت أكثر من مرة حديثا عن الشاعر أحمد نجم وكيف أنه صباح يوم وفاته توجه إلى البنك وأعطى موظفا هناك خمسمئة جنيه بدون أي مبرر، وراح يناول المال لكل من يقابله وهو يقول له : " خذ.. شوية فلوس". أحمد نجم كان كريما، لكنه لم يكن سفيها، لكنها قصة تشبه الحوار الذي لم يحدث مع ماركيز،
لا أساس لها ولا سند. قرأت أن النحاس باشا طالب بمنع أغنية فريد الأطرش المعروفة " يا عوازل فلفلوا". من أين جاء هذا الكلام؟ لا تدري، لكنه عنوان جذاب لموضوع لم يحدث قط إلا في الصحف. انظر أيضا قصة أن عبد الحليم حافظ كان يغار بشدة من الممثل يوسف شعبان! وبسبب تلك الغيرة تم استبعاد شعبان من فيلم "معبودة الجماهير". طيب لماذا لم يقل شعبان هذا الهجس في حياة عبد الحليم حافظ ؟ لا تدري. تقرأ أيضا عن صراع عنيف دار بين نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف شاهين، وتبحث في المكتوب عن أي مصدر لهذه الحكايات فلا تجد، لكنك ستلاحظ أن كل تلك الحكايات المفبركة قد ظهرت فقط بعد وفاة الفنانين الكبار الثلاثة بزمن طويل، وعندما لم يعد بوسع أحدهم أن يرد أو يصحح. ستقرأ أيضا سخافات عن عدد كبير من الفنانين مثل الطريقة التي تم بها طلاق مديحة يسرى ومحمد فوزي، وماذا قالت مديحة في تلك الليلة، وكيف تنهدت، حتى لتظن أن كاتب التحقيق كان جالسا مع مديحة وأنها أفضت إليه بكل ما في صدرها وما في قلبها من دموع. هكذا تغمرنا الصحافة بأحداث وحكايات لم تقع إلا في خيال الصحفي المشعشع الذي يتوق لربط اسمه بمادة لافتة للنظر، وبموضوع " يفرقع"
. يذكر ماركيز أن شخصا اقترب منه في إحدى الحفلات ولكي يتقرب من ماركيز راح يؤكد له أنه على علاقة وثيقة بأخيه، وخجل ماركيز أن يقول له إنه ليس له، ولم يكن له أخ من الأساس! وحين أقرأ ذلك الطوفان من الفبركة أتساءل: أليس الواقع الحي الملموس أكثر إثارة من كل تلك الحكايات المختلقة؟ على سبيل المثال عاش بيننا شاعر شاب اسمه ميدو زهير، كان من شعراء ثورة يناير وتوفي منذ أيام، لم يسمع به أحد، ولم تنشر له الصحف شيئا، وبالبحث لم أجد أي معلومات مفيدة عن حياته، لأن الجميع كانوا مشغولين بحكايات لا أساس لها. ولميدو زهير قصائد جميلة منها: " ما أعرفش ماذا بيا .. أنا خدت المدى لمداه .. وقضيت في القضية .. وقلت الألف لا .. ودخلت المجذوبية ..
وقتلت وما اتمسكتش..علشان قتلت فيا"! وبدلا من اختلاق حواديت عن علاقة شادية بعماد حمدي لماذا لا يتوجه الصحفي الشاب إلى المستشفى الذي توفي فيه دكتور هشام الساكت بسبب الوباء ؟ أو إلى أسرة الممرضة حبيبة عبد الغني التي استشهدت خلال كفاحها ضد الكورونا، فيقدم لنا من الواقع صورة وافية عن بطلة مصرية لم تشق صورتها طريقها إلى الاعلام؟ أو فليظهر لنا أحدهم بيت أحد شهداء بئر العبد وأسرة الشهيد وكيف استقبلت قريته نبأ استشهادة في مواجهة الارهاب؟. المواضيع الحقيقية كثيرة جدا، وإذا لم يكن الصحفي يريد أن يتعب نفسه بالبحث عن الحقيقة، فإن بوسعه على الأقل ألا يختلق حكايات لم تقع قط، بينما يخجل أصدقاؤه من أن يقولوا له:" هذا لم يحدث، وبلا مصدر أو مرجع"، كما لم يحدث أن ماركيز ألقى محاضرة في مدينة " بالمادي"، ولم يحدث أن كان له أخ من أي نوع!