سليمان شفيق
ما أشبه اليوم بالبارحة، فما تعيشه مصر والعالم من حالة حظر وتباعد اجتماعى، خاصة مع أعياد شم النسيم و شهر رمضان المبارك وعيد الفطر، ليست حالة جديدة من نوعها ، ففي أربعينيات القرن الماضي، عاش المصريون أياما مماثلة لايامنا الحاية مع فيروس الكورونا ،مما ادي الي الغاء كل الاحتفالات الدينية واغلاق المساجد والكنائس ، وكانت مجلة "آخر ساعة" قد نشرت خبرًا، حصلت "عالم المال" على صورة منه، يتحدث عن إيقاف احتفالات شم النسيم في أربعينيات القرن الماضي، والذي كان يوافق في مفارقة زمنية تشبه أيامنا الحالية، قدوم شهر رمضان، ورحيل وباء الكوليرا الذي أوقع العديد من الضحايا.
اول كوليرا اصابت مصر في صيف عام 1902 ، تفشت الكوليرا بين الحجاج في مكة ، فقضت علي الآلاف منهم ،وبينهم مصريين ،ودخلت مصر مع العائدين منهم بالرغم من إجراءات حجزهم في معازل بسيناء ،ولكن لم يمنع ذلك من تسرب الوباء فقتل 34 ألفا 595 مواطنا في مختلف أنحاء مصر
مصر في زمن الكوليرا يرويها د نجيب محفوظ :
كان الدكتور نجيب محفوظ "1882- 1974 " أحد راود الطب في تاريخ مصر ومن الذين واجهوا هذه النكبة، أثناء دراسته في السنة النهائية بمدرسة طب قصر العيني، ويسجل شهادته عنها في مذكراته "حياة طبيب " تقديم عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وأعادت إصدارها الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2013 ، ونشر بعضها في اليوم السابع .
يتذكر "محفوظ" ، أن وباء الكوليرا ظهر في بلدة "موشا " بأسيوط في أواخر شهر مايو 1902 ، ولم يكن عدد الأطباء كافيا لمقاومة الوباء ومكافحته ،فقررت الحكومة تجنيد طلاب الطب الذين تقدموا في الدراسة ،خاصة طلبة السنة النهائية لكي يسهموا مع الأطباء في مقاومة المرض ،وتقرر وقف الدراسة في مدرسة الطب وتأجيل امتحاناتها ، واستمر الأمر حتي أواخر شهر ديسمبر 1902 .
يذكر "محفوظ" أن الوباء انتشر في مصر من قرية "موشيا " ويصفها قائلا :"علي مقربة من أسيوط ، وهي قرية صغيرة يسكنها بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف ، وتقوم علي مرتفع من الأرض وسط الحياض بأسيوط ، وفي أثناء الفيضان تمتلئ الحياض ، فتصبح القرية كأمها جزيرة تحيط بها المياه ، لايوصل إليها إلا علي متن القوارب ، وفي الصيف بعد انحسار مياه الحياض ، تجف التربة ، وتكثر فيها بسبب الحرارة أخاديد وشقوق يتعذر معها السير ، ودرجة الحرارة فيها ترتفع حتي لتبلغ في الظل أحيانا 53 درجة".
وعن سبب دخول الكوليرا إليها يقول:" كان بين الحجاج الذين عادوا ، بعد أن قضوا فترة الحجر الصحي عمدة "موشا" ، وهو علي حظ من الثقافة ، وقد جلب معه عشرة صفائح مملوءة بماء بئر زمزم في مكة ، وكانت زمزم في تلك السنة لحقها "ميكروب الكوليرا ،ولم يفطن إلي ذلك هو أوأطباء المحجر ، فأذنوا له في نقل صفائح الماء معه ، وهي محتوية علي رواسب عضوية تقوتت بها "ميكروبات " الوباء " ولما وصل العمدة إلي بلدته ، وزع ماء الصفائح علي أهله ومحبيه ،فصبوا في آبارهم للتبرك ، وماهي إلا أن ظهرت بينهم " الكوليرا " تحصدهم حصدا ، فأقامت الحكومة حول القرية نطاقا من العسكر يمنعون الدخول إليها أو الخروج منها ،وحشدت لمكافحة الوباء خيرة الأطباء ، وعلي رأسهم "جودمان " وطبيب من الجيش سبق له أن كافح " الكوليرا " في الهند، وهو الدكتور "روانتري" ، وكذلك جندت طلبة السنتين الثالثة والرابعة من مدرسة الطب ، وقدرت لكل منهم خمسة عشر جنيها مرتبا شهريا ، وهو ضعف مرتب الطبيب في الأحوال العادية في ذلك العهد ".
كان نصيب نجيب محفوظ في التوزيع هو العمل في محطة القاهر للسكة الحديدية يفحص المشتبه فيهم من القادمين في قطارات الصعيد ،وعمل الإجراءات لشحن المهمات الطبية من القاهرة إلي "موشا" ،ويؤكد أنه بعد أسبوعين سئم العمل في هذا المكان ،حتي قرأ خبرا في صحيفة المقطم أن طبيبا مصريا توفي في "موشا " بالكوليرا أثناء تأدية عمله ، فطلب من "مصلحة الصحة " نقله مكانه ،غير أن مدير عام المصلحة وكان إنجليزيا اسمه "هوراس بنشنج" رد عليه بأن الطبيب البديل المطلوب لابد أن يكون ممن مارسوا مكافحة الأوبئة ،فرد "محفوظ :" يندر أن يكون في مصر طبيب كافح الكوليرا قبل اليوم ، فإن آخر غزوة للكوليرا كانت سنة 1882 ، منذ عشرين عاما "، واقتنع "بنشنج " ووافق علي سفر محفوظ وأعطاه رسالة إلي الطبيب الإنجليزي المسئول في "موشا " واسمه "جودمان".
وصل "محفوظ" إلي "أسيوط " ومنها انتقل الي "موشيا" علي ظهر حمار في قافلة تذهب إلي القرية يوميا الساعة السابعة والنصف حاملة الثلج والأطعمة علي الحمير
أقام "محفوظ " في خيمة منصوبة في العراء لإقامة الأطباء ،وكان لكل طبيب خيمة خاصة به مزودة ببعض أدوات غسل الوجه واليدين ، وكان هناك خادم يتنقل بين الخيام لمساعدة من يبغي الاستحمام ،وفي صباح اليوم التالي من وصوله، أرسل "جودمان" إليه إطارا رسمه مهندس تمهيدا لعمل خريطة للقرية ، وقائمة بالمتوفين بالكوليرا ، وتاريخ وفاتهم ، انتهي محفوظ من رسم الخريطة في خمسة أيام، ثم بدأ عمله بالتفتيش عن الآبار المخبوءة ..يتذكر:" كان الأهلون يخفونها بوضع ألواح من الخشب القديم عليها ، ويفرشون فوق الألواح حصيرا باليا يسمونه " الأبراش" ، ثم يغطون الحصير بالتراب ، فلا يهتدي إلي مكان البئر إلا من يعرف السر ، وكنت أصل إلي اكتشافها بأن أقرع أرض فناء المنزل بهراوة غليظة تسمي " النبوت "، أعارتها من نائب العمدة الذي كان يصحبني في القيام بهذه الزيارات ، فإذا كان صدي القرع أصم علمت أن ليس هنا مكان بئر ، وإذا كان الصدي رنانا أمرت بنبش الأرض ، فأجد فوهة البئر مغطاة بالحصير فوق ألواح الخشب ، ومتي اكتشفت بئرا وضعت نقطة حمراء في موضعها من رسم القرية ، وكتبت اسم صاحب المنزل المحتوي علي البئر في دفتر خاص وبهذه الطريقة اكتشفت من الآبار المخبوءة نحو خمسين ".
انتقل "محفوظ" إلي قائمة الوفيات وتواريخها ،ووضع نقطة سوداء عند كل منزل حدثت فيه وفاة ، وتبين له أن كل الوفيات حدثت في المنازل المجاورة لبئر كبير اشتهر بعذوبة مائها ،فكانوا أصحابها وجيرانهم يملأون منه في الشر للشرب ثم يغطونه ..يتذكر محفوظ أنه ملأ صفيحة منه وأرسلها إلي التحليل في معمل "بكتريولوجي " في أسيوط ،وأظهر التحليل أنه عامرا بميكروب الكوليرا ، فتم تطهيره ثم ردمه ، وبعد أسبوع انقطعت الكوليرا من قرية "موشا " .
انتقل محفوظ بعد قرية موشا إلي ديروط في أسيوط أيضا لمقاومة الوباء، ثم جاء إلي حلوان ، وسافر إلي الأسكندرية ، وفي نهاية دسيمبر 1902 تم القضاء علي الوباء بعد أن حصد 34 ألف و595 شخصا ، وعاد نجيب محفوظ إلي دراسته وكان أول الناجحين في مدرسة الطب ،وأصبح من رواده في تاريخ مصر
مذكرات د نصر ابو ستيت :
وتفشى وباء الكوليرا في مصر في عام 1947 وبعد سنوات طويلة من اختفاء وباء موشا في الصعيد في عام 1902، يذكر أن مذكرات الأطباء الشعبية في الصعيد، كمذكرة الطبيب نصر أبوستيت، قالت إن السبب في اختفاء الكوليرا ومعاودتها للتفشي في عام 1947 هو الاحتلال البريطاني، حيث انتشر الوباء بسبب قيام قوات الاحتلال البريطاني بعدم المرور بالحجر الصحي حال مجيء قواتها من الهند التي تعتبر موطن وباء الكوليرا، لذا يطلق عليها الكوليرا الهندية.
وكان عامل انتشار الوباء في القروين خطيرًا جدًا لأن أكثرهم فلاحون يسكنون في منطقة البحر الصغير، الذي يمتد من المنصورة إلى بحيرة المنزلة"، وتم توجيه الاتهام إلى البلح الحياني في أسواقه في الشرقية والدقهلية والقليوبية بسبب التلوث.
ومن جانبه أكد تقرير الدكتور الطبيب نصر أبوستيت إنه في وباء الكوليرا في عام 1947، "تم توجيه الاتهام إلى الخضر والبلح بسبب موت تاجر بلح في الإسماعيلية، وتم إيقاف الاحتفالات بسبب التزاحم، حيث ألزمت الحكومة الجميع بتطهير الخضر والبلح قبل توزيعها، وقد استخدم الأطباء المصريون الأرانب لاستخراج المصل واللقاح، كما أرسلت الهيئة الصحية الدولية العديد من البعثات الأجنبية التي ساهمت في تطهير المنازل الريفية والتعقيم ومطاردة الذباب، وهذا كله دفع الشعراء الشعبيين إلى الكتابة عن الكوليرا، وربط الوباء بالأطعمة، والهجوم على الإنكليز، وكان من أشهر المقولات وقتها ’خلي بالك من الرغيف.. أحسن العيش مش نضيف".