فاطمة ناعوت
أخيرًا تحقَّق الحُلمُ الذى ناديتُ به سنين وسنين. أخيرًا جاء على مصرَ زمنٌ يحترم فيه صُنَّاعُ القرار هُويّتَنا المصريةَ الرفيعة، ويُعلّمون النشء الصغير عبقرية السَّلف المصرى الصالح: أجدادنا. تحية احترام وتقدير للدكتور «طارق شوقى»، وزير التربية والتعليم، لإيمانه بأن «الأخلاق» هى المادة التى يجب أن تتسرّب داخل متن «جميع» المناهج الدراسية، خصوصًا لأطفالنا الذين مازالوا على الخُطى الأولى فى حياتهم. وحين نتكلم عن الأخلاق، فمن العسير علينا نحن المصريين أن نغفل أن أول وأقدم وأرقى دروس الأخلاق فى التاريخ كانت ومازالت مكتوبةً على جداريات الجد القديم، تُعلِّم البشرية جمعاء قيم التحضُّر والسموّ والخلق القويم.
فى كتاب القراءة للصف الثانى الابتدائى درسٌ بعنوان: (أخلاق المصرى القديم مكتوبة على الأحجار)، نقرأ فيه الكلمات التالية: (لم أكذب، لم أسرق، لم أملأ قلبى كرهًا، لم أُسئ معاملة الناس، لم أسبِّب ألمًا لأحد، لم أكن سببًا فى دموع إنسان، لم أكن سببًا فى شقاء حيوان، لم أعذِّب نباتًا بأن نسيتُ أن أسقيه ماءً، أطعمتُ الجائع، ورويتُ العطشان، وكسوتُ العريان، ولم ألوِّث ماء النيل، وملأتُ قلبى بالحق والعدل). وأسفل هذه الكلمات المضيئة البهية، صورٌ لكل من: تحوت، سخمت، حورس، أنوبيس. وتضيقُ مساحةُ هذا المقال عن سرد قيمة هذه الأسماء الجميلة فى الأدبيات المصرية القديمة.
تلك هى الخطوة الأولى لمواجهة الإرهاب. أن نبنى فى عقول أبنائنا الصغار صخرة الرحمة والحب ونبذ العنف. تلك القيم الجميلة الموضوعة فى كتاب الصغار هى جزء من مشروع قانون هائل ورفيع كتبه سلفُنا المصرىُّ الصالح قبل سبعة آلاف عامٍ، لمواجهة الظلام والظلم والتلوّث والقسوة والإرهاب والتطرف والكسل والبلادة وانعدام الضمير. اسمه: «دستور ماعت»، وهى «ربّةُ العدل» فى الميثولوجيا المصرية التى تعلو رأسَها ريشةٌ، هى رمزٌ للضمير والحق والعدل والأخلاق. «ماعت» ترونها محفورة على جداريات المحاكم فى جميع أنحاء العالم، معصوبة العينين (دلالة العدل المطلق)، تحمل فى يدها ميزانًا ذهبيًّا. فى لحظة المحاكمة، تنزعُ ماعتُ ريشةَ العدل من فوق هامتها، وتضعها فى إحدى كفّتى الميزان، وفى الكفّة الأخرى تضعُ قلبَ الشخص الذى يُراد محاكمته بعد موته. وهنا يُحدَّدُ وزن خطايا المُحاسَبُ وحسناته بكل دقّة، ليُحدّدَ إن كان سيدخل الفردوس لأنه خيّرٌ نيّرٌ صالحٌ وطيبٌ، أو يُلقى به فى غياهب العدم، لأنه شريرٌ أشِرٌ ظالمٌ مظلمٌ طالح وفاسد.
يتكون دستور ماعت من اثنين وأربعين مبدأً يضبط ميزان الأخلاق فى المجتمع. اثنان وأربعون مبدأ كانت هى النبراسُ والطريق للعيش الكريم فى مجتمع كريم يسكنه كرماء. وكانت تلك المبادئ ساريةً على الفرعون الملك، مثلما هى ساريةٌ على رجالات البلاط، ورجال الكهنوت، مثلما هى سارية على عامة الشعب. وتُسمى فى الأدبيات المصرية القديمة: (الاعترافات الإنكارية)، لأن المرء (ينكر) فيها عن نفسه كل الخطايا البشرية المعروفة. (وفى مقابلها توجد «الاعترافات الإثباتية» نذكرها فى مقال قادم). من الإنكارات ما يلى:
(أنا لم أقتل، ولم أُحرّض أىَّ أحدٍ على القتل ولم أنتقم لنفسى، ولم أتسبب فى الإرهاب، ولم أعتدِ على إنسان، ولا تسبّبتُ فى ألم إنسان، ولم أكن سببًا فى دموع، ولم أظلم ولم أضمر نيةً الشر. أنا لم أسرق ولم آخذ من بلادى أكثر من حصتى العادلة، ولم أُتلِف المحاصيل والحقول، ولم أحرم إنسانًا من حقّ. أنا لم أستدعِ شاهدا زورا، ولم أكذب، ولم أجرح شعور أحد، ولم أتحدث بمكر، ولا خداع. أنا لم أزدرِ أحدًا، ولم أتنصّت على أحد. أنا لم أتجاهل الحقيقة ولم أجاوز الصواب فى كلامى. أنا لم أحكم على إنسان فى تعجّل أو قسوة ولم أغضب دون سبب وجيه. أنا لم أعرقل تدفق المياه الجارية فى النهر ولم أهدرها، ولم ألوّث الماء والأرض. أنا لم اتخذ اسم الله هزوًا، ولم أسرق من الله، ولم أُمنح عطايا أكثر ولا أقل مما هو مُستحق لى. أنا لم أطمع فى ممتلكات جارى، ولم أسرق الموتى، ولم أمنع القرابين المقدمة إلى الله، ولم أذبح بقصد الشر ولم أعذّب أى حيوان. أنا لم أتصرف بوقاحة، ولم أكن فخورًا أو مغرورًا ولا تصرفت بغطرسة ولم أُضخّم حالى ولا تجاوزت ما هو لائق، ولم أهمل التزاماتى اليومية. أنا أطعتُ القانون ولم أرتكب خيانة وطنى).
هذا دستور «ماعت» الذى كتبته ريشةٌ مصريةٌ قبل آلاف السنين. اقرأوه واهتفوا: طوبى لسلفنا الصالح. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم