عاطف بشاي
ظل «محمد رمضان»- حتى وقت قريب- يمثل نموذجًا صارخًا لانقلاب السلم القيمى فى المجتمع والتحول الخطير فى السلوك الأخلاقى.. فسينما ومسلسلات العنف التى قام ببطولتها تأتى انعكاسًا لما يعبر به المجتمع المصرى خلال النصف قرن الماضى من تغييرات عميقة قلبت أمورًا كثيرة رأسًا على عقب، حيث شهدت مصر معدلات غير مسبوقة فى تاريخها الحديث للحراك الاجتماعى.. فتغير التكوين الطبقى للمجتمع بصعود شرائح اجتماعية كانت فى أسفل السلم الاجتماعى.. وهبوط شرائح كانت فى أعلى السلم.. ودراما العنف التى ظل يقدمها «رمضان» تعكس الانقضاض على ثوابت القيم والمبادئ بالانتقام الفردى الذى يستخدم فيه الأسلحة النارية والسنج والمطاوى بضراوة لتحقيق مآرب شخصية، بالإضافة إلى التدنى الدرامى والمغزى الاجتماعى والإنسانى.. وكانت أفلام مثل «عبده موتة» و«الديزل» و«قلب الأسد» والتى تنتمى إلى بيئة العشوائيات وتحتوى على أحداث دموية ملفقة وتسلسل لفواجع متتالية وصدف ساذجة وجرائم بشعة وحوار متدن مع غياب دائم لرجال الشرطة والقانون، فتصبح وسيلة التكسب والحصول على الأموال هى العنف والجريمة وتحقيق الأمن الشخصى بمعزل عن الطرق الشرعية.
على أن «محمد رمضان» قد قرر فجأة تغيير جلده والتحول عن مساره السابق والخروج من أسر ميلودراميات البلطجة والعنف والانتقام الفردى.. ويحدث مفاجأة من العيار الثقيل.. بتقديم مسلسل «البرنس» المعروض حاليًا ضمن الوجبة المتنوعة لمسلسلات «رمضان».. والمسلسل يأخذ من التراجيديا الاجتماعية شكلًا لمحتوى درامى مثير وتسلسل صاخب الأحداث.. ويبدأ بمقدمة منطقية تستعرض أحوال أنماط بشرية تقطن فى شارع ضيق بحى شعبى يحتشد بشخصيات رسمت ملامحها ببراعة واقتدار ابتداء من البطل «رضوان» (محمد رمضان) الذى يمتلك ورشة سمكرة السيارات ورثها عن والده يعمل فيها باجتهاد وأمانة واضحة وهو يمثل نموذجًا شهمًا وطيبًا ومعطاء.. يمد يده لمساعدة المحتاج وإغاثة الملهوف وإعانة الثكلى والمكروبين فى إخلاص وسماحة.. وإخوته الرجال الأربعة يمثلون خليطًا عجيبًا ومدهشًا من البشر المختلف السمات والمهن والسلوك والمآرب، ومنهم أخ متزوج من صيدلانية رفض أن تباشر عملها وألزمها بالبيت تحت ستار عدم ترحيبه بعمل المرأة.. وأدار الصيدلية بالنيابة عنها لاستغلالها فى ترويج المخدرات.. ويلعب دوره «أحمد زاهر».. وآخر «إدوارد» متزوج من راقصة أفراح.. وهو عاطل وشبه قواد وصبى عالمة يعيش فى شقتها ويأكل من فتات ما تجود به.. تافه بلا أطماع.. وثالث بلا مهنة واضحة يشارك أخاه «زاهر» فى عمليات مريبة.. وتراوده عن نفسه (روجينا) الزوجة السرية لأخيه.. ورابع شاب مدمن ضائع.. وهذه الشخصيات التى يبدو للمشاهد أنها غارقة فى الفساد وتصنف باعتبارها نماذج كريهة وشريرة وتمثل نفايات مجتمع متصدع.. يقدمها المؤلف والمخرج «محمد سامى» ببراعة متجسدة بأبعادها الاجتماعية والنفسية باعتبارها بشرًا من لحم ودم وأعصاب ونزعات وأهواء.. وليست أنماطًا يضعها فى قوالب جامدة.. وإطارات ثابتة متعسفة تنقسم إلى أشرار وأخيار.. ملائكة وشياطين.. فضائل إجبارية ورذائل شائعة.. إنه يراها من منظور يحتشد بالمفارقات البشرية.. من درر وأصداف وحصى وحجارة.. أحياء يتصارعون.. سماء تصفو ونجوم تختنق يجتمع فيها الجحيم والفردوس.. صور زائفة يختفى فيها الزائل فى أحشاء الثابت.. أقنعة تتوارى وراء خبث نفوس تخفى صلفًا وعنجهية.. وتظهر حبًا ورحمة.. وهكذا.
إن المبدع هنا لا يحاكم شخصياته ولا يدينها ولا يسعى إلى هدايتها أو تقويمها ولا يتطوع بإهدائها عصير الحكمة.. ولا يقيمها ولا يضعها فى ميزان الحسنات والسيئات.. ولا يلوى عنقها ليحدد مصيرها.. ولا يلفظها ولا يناصبها العداء.. ولا يخاطبها من فوق منبر الهداية والصلاح لنبذ الحرام.. ويزين لها الحلال.
إنه يتركها تمضى إلى حال سبيلها سادرة فى غيها أو غائبة عن وعيها.. أو نادمة على أفعالها.. فقط يتابعها بعيون ثاقبة ورؤية متفتحة.. ورحابة أفق.. ورصد يكشف الأغوار وبصيرة ذكية لماحة لأدق خصائص الشخصية وتفاصيل معاناتها.
ويصبح ممثلوه فى أفضل حالاتهم.. وأعمق معايشة للشخصيات الدرامية.. لأنهم هم الذين يدفعون الدراما إلى الأمام وليس العكس.. وتقودهم إلى صراع محتدم يتآمرون فيه على البطل ويتفقون على قتله بزعم استيلائه على حقوقهم فى الميراث.
ويبرز الممثل «أحمد زاهر» بأداء مبهر ويرتدى «محمد رمضان» ثوبا قشيبا من الإجادة.. وروجينا بوعى ساخر وطريف وجديد تصبغه على الشخصية.
بالإضافة إلى إضاءة بارعة من مدير تصوير موهوب وزوايا تصوير وحركة ممثل وكاميرا فى غاية التميز والإتقان، إنه كاتب السيناريو ومخرج خلاق ومبدع حقيقى.
نقلا عن المصرى اليوم