بقلم:دكتور مهندس/ ماهر عزيز
استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ
وَجَّه خطابه الخالد للبشرية كلها وهو يجيب واحداً من تلامذته ابتدره بسؤال " فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟" (يو 14 : 5)، وأعلن: "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ" (يو 14 : 6)، فقرن في نداء واحد الطريق والحق والحياة معاً، مؤكداً أن طريق الحياة هو طريق الحق، وأن الحياة لا تكون حياة إلا بالحق، ولا تستحق أن تعاش أصلاً إلا أن تُعاش حقاً وطريقاً للحق..
في إعلانه الأعظم: "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ" كشف بيقين مطلق أن الله هو الحق، وأن معرفة الحق هي السبيل الوحيد لمعرفة اللـه..
وظل يؤكد: " قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ"، و"كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي" (يو 18 : 37).
فاللـه هو الحق .. يشهد للحق..
ومعرفة اللـه لا تكون إلا بالحق..
وطريق الحق هو وحده الطريق إلى اللـه.. وهو عينه طريق الحياة..
والحياة خاسرة، وطريقها طريق الموت، لو لم تكن هي الحق ذاته..
" أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ ".. صوت الله في البشر والعالم لحياة مُسْتَحَقَة ينتفى فيها الكذب والظلم والغش والاحتيال.. "فاللـه روح وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا" (يو 4 : 24).
وقف على الجبل يعلم البشرية بأكملها والمستقبل العتيد كله: " لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ" (مت 7 : 1) ، فجذب الانتباه بشدة إلى أولى ظواهر الجور على الحق، وأنذر بأن الخداع الذاتي يسلم الإنسان إلى التغافل عما يخصه من نقائص وأغلاط ليلصقها بالآخر، في عملية تعمية خداعية يداس بها الحق، ولا يُحَاَسَبُ فيها سوى الإنسان ذاته..
فإدراك الحق هو عيان كاشف للذات قبل أن يكون كاشفاً للآخر..
في كل حبه الذى وهب كان الحق أداته التي منح بها حبه..
وفى كل محبة بذلها كان العدل هو أساس عطائه وبذله..
كأنما أراد أن يعلنها مدوية أن ما تلوكونه بألسنتكم صباح مساء عن الحب – كأنكم حقاً تحبون – هو باطل يغترب اغتراباً مطلقاً عن الحب، إذا لم تعرفوا الحق والعدل أولاً وقبل كل شيء..
فإذا قلتم نحب نحب وأنتم تأكلون الحق ما عرفتم الحب أبداً..
فلا تعودوا تتحدثون عن حب لا تعرفوه..
تلوكونه بألسنتكم صباح مساء.. وتكذبون به فلا تعرفوه..
وادعاء الحب قد صار لديكم أداتكم للغش والخديعة..
في كل كرازته ودعوته وندائه تَجلَّى إعلانه المدوى: "العدل أساس الحب"..
وإذا لم تكن عادلاً فمحبتك باطلة..
لأن الحب الظالم ليس حباً بل فساداً وانتهاكاً..
وبئس من يقول الحب الحب وهو يأكل الحق ويكسر العدل وينتهك الأمانة..
الباطن لا الظاهر.. والجوهر لا الشكل
"جَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاسًا فِي الْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيرًا. فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ، قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ. فدعا تلاميذه وقال لهم: إِنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ، لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا" (مر 12 : 41 - 44).
نَفَذَ المسيح إلى الباطن متجاوزاً الظاهر البراق للعيان، وأعلى الحق الكامن في المضمون الخفى على الشكليات المعلنة الخادعة..
أثبت المسيح أن ما تراه العيون جلياً أخاذاً في أحيان كثيرة هو غطاء كثيف يدارى الحق ويخفيه، وأن الحق الذى يتعين علينا أن ندركه يقتضى منا أن نتجاوز البهرجة الظاهرة إلى الحقيقة التي تتوارى عن الأنظار.
أعلن المسيح بحكمه المنصف العادل أول مبادئ الحق الذى يتعين أن نَجِدَّ في الكشف عنه وننتصر له..
فالنَّظرُ العادل هو ذاك الذى يتجه رأساً إلى الباطن لا الظاهر، وإلى الجوهر لا الشكل.. وذلك هو أول الحق ومبدؤه..
لكننا كثيراً ما نضحى "بالباطن" في سبيل "الظاهر"، لأننا نعطى الصدارة "للمَظْهَر" على "المَخْبَر"..
ذلك أننا قد اعتدنا التوقف عند "الأعراض" دون النفاذ إلى "الجوهر"، كما أننا نهتم "بالشكليات" دون الحرص على الاحتفاء بصميم "المضمون"..
إن إغفال "الباطن" لحساب "الظاهر" هو اهتمام "بالصورة" دون "المادة"، وعناية "بالشكل" دون "المضمون"..
وليس ذلك فقط أحد أعراض "العقلية السطحية" التي كثيراً ما تعجز عن النفاذ إلى "الباطن"، ولكنه أيضاً تعبير عن "الضلال عن الحق" "بالخداع الذاتي" الذى يتوهم النجاح في بلوغ "المضمون" طالما أمكنه إقامة "الشكل" وطمس "الجوهر"..
ويمتد دافع إخفاء الحق - بالحرص على إبراز المظاهر والتمسك بها - إلى العمل على مداراة عيوبنا وإخفاء نقائصنا بإلقاء حجاب صفيق على مظاهر فشلنا والتواء ضمائرنا.. وبديلاً عن المواجهة الصريحة الشجاعة لتلك النقائص نسعى جاهدين إلى تغطيتها بستار صفيق من "التبرير الذاتي"، بما يجعلنا نتفنن في الظهور أمام الآخرين بمظهر مختلف تماماً عن حقيقتنا، كأننا نتوهم أن "مظهرنا" مادام قد بدا مغايراً "لمخبرنا" فقد نجحنا في إخفاء حقيقة أمرنا عن عيونهم..
والحق أن هذا "الخداع الذاتي" - بتغليب "الشكل" على "الجوهر" على المستوى الفردى - سرعان ما ينسحب على المجتمع "بالنفاق الاجتماعى" الذى يفت في عضد المجتمع كله، نتيجة حرص معظم أفراده على "إظهار" غير ما "يبطنون"، فغير قليل من الفساد السارى في المجتمع يرجع في صميمه إلى هذا التمسك الأجوف "بالمظاهر" و"الشكليات" و"الحَرْفِيَّة" الخادعة في تطبيق القواعد واللوائح والتوجيهات الدينية، دون أن نلتزم بالحق الكامن في "الجوهر" و"المخبر" و"الروح".. مما يسلمنا دائماً إلى "تزمت شكلى" باهظ في الحرص الحرفى على النواهى والقواعد والأحكام، بينما "التساهل" المتهرئ على أشده في الانضباط الذاتي والالتزام بروح الحق، وذلك ما فضحه يسوع ذاته وهو يخاطب الكتبة والفريسيين وأشباههم على طول التاريخ: "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ... أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ! الَّذِينَ يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ" (مت 23 و 24).
لا يُدْرَكُ الحق إلا من جميع زواياه
"وَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِنًا. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي الْوَسْطِ. قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالُوا هذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأَرْضِ. وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ، انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلًا بِحَجَرٍ. ثُمَّ انْحَنَى أَيْضًا إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأَرْضِ. وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ، خَرَجُوا وَاحِدًا فَوَاحِدًا، مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَالْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الْوَسْطِ. فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَدًا سِوَى الْمَرْأَةِ، قَالَ لَهَا: يَا امْرَأَةُ، أَيْنَ هُمْ أُولئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ. فَقَالَتْ: لاَ أَحَدَ، يَا سَيِّدُ!. فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا" (يو 8: 3-11).
ماذا فعل يسوع حين انحنى إلى أسفل وصار يكتب بأصبعه على الأرض؟
ماذا فعل يسوع حتى إذا انتصب لم ينظر أحداً من كل الذين اشتكوا على المرأة وأرادوا أن يرجموها؟
ماذا فعل يسوع كى تبكتهم ضمائرهم ويخرجون واحداً فواحد، ولم يبق أحد البتة؟
ما فعله يسوع أنه قد أراهم الحق الذى لم يروه، وبَصَّرَهُم بالعدل الذى لم يدركوه، وبَلَغَ بهم الرؤية الشاملة فانهارت حماستهم للقصاص وتطبيق حُكم الناموس، وانخذلوا بعيداً تأكلهم ضمائرهم..
انحنى يسوع على الأرض وراح يكتب أمامهم بأصبعه لكل واحد خطاياه الثقيلة الخفية التي لا يعرفها سواه..
انحنى يسوع إلى أسفل يُبِّين لكل واحد من الغيورين على رجمها وقتلها الوجه الآخر الخفى للحق الذى لا يريد أن يراه البتة، كى لا يبقى ظاهراً له سوى الجزء المرئى من الحقيقة، يُسَوِّغ له الغَيْرَة على رجم الخاطئة المسكينة..
انحنى يسوع وكتب على الأرض.. انحنى يتعب ويَجِدُّ في طلب الحقيقة.. فما أيسر أن يرجم الجميع الخاطئة بحكم الشريعة، لكن ما أصعب أن يبصر كل واحد الوجه الآخر الخفى للحقيقة، حتى يتضح أمامه الحق كله، عندئذ يصير قادراً على الحكم الصحيح، وذلك ما فعله يسوع بالضبط..
كأنما أراد أن يخاطب كل واحد منهم بمفرده: "أنت ترى جزءاً من الحقيقة وتحكم به على هذه الخاطئة بالقتل.. لكنك لو رأيت الجزء الآخر للحقيقة ستحكم بالحق"..
وحين أدرك كل منهم خطاياه التي يستحق عليها هو ذاته الموت، ووجد أن الحجر الذى يمسك به ليلقيه على الخاطئة حَرِىُّ به أن يلقيه على نفسه أولاً، أبصر الحق على نحوه الصحيح، فألقى الحجر جانباً، وانسل منسحباً مخزياً ومذلولاً!!
كان المسيح حقانياً في رؤيته للحق من جميع زواياه، وأراد أن يعطى هذا الدرس للعالم أجمع.. كى لا يضيع الحق بين الناس "لأن القضاء بالحق للـه" (تث 1 : 17).
ويبرز هنا السؤال:
هل من مبادئ تعيننا نحن الذين في ظلمة الكذب والالتواء والآلام يضيع الحق منَّا فنصنع الظلم في كل لحظة؟
الحق أن رؤيتنا للحق معطوبة دائماً بأحكامنا الذاتية، بينما الحقيقة المجردة رهن بالحكم الموضوعى المحايد..
نحن لا نفرق بين الأحكام الذاتية والأحكام الموضوعية، فنحكم بالذاتى في الموضوعى وبالهوى الشخصى فيما يخص الناس، وننتهى دائماً إلى خطأ في التفكير وإلى ظلم بالناس..
نغفل دائماً أن الأحكام الذاتية لها مجالها الذى يتعين ألا تتخطاه.. فقد نحب مشهد الغروب أو نعزف عنه.. وقد نفضل الشهد أو نَعَافُه.. هذه رؤية ذاتية أفرزتها ظروف شخصية لا دخل لها بشئون الناس، ولا بحقهم أو بميزان العدل فيما يخصهم..
فلا يجوز ولا يسوغ ولا يحق أن نحكم فيما بين للناس بنظرات ذاتية يختلط فيه حق بباطل..
إن الأصل في إدراك الحق هو أن نفصل تماماً بين ما هو ذاتى وما هو موضوعى..
إن أخطاءً جسيمة للفكر تُقْتَرَف من جراء هذا الخلط عينه..
وظلم هائل يقع بالناس حين تتسلل النظرات الذاتية للحكم بشأنهم، فنخطئ الحق ولا نبلغه.. ونضيِّع العدل في انتهاك الموضوعية بما يمُسُّهم.. ونُفْسِد القضاء بحكمهم.. بينما "القضاء للـه" (تث 1: 17)، لأن الحكم بالظلم هو في جوهره ظلم بحق اللـه وليس بحق البشر..
فإذا كان من العسير التفرقة الدقيقة التي تميز ما هو ذاتى عما هو موضوعى - لأن الإنسان هو الإنسان وإذا نظر إلى شيء فإنما ينظر إليه من خلال ذاته - فإن ذلك يدفعنا إلى البحث عن الحقيقة دائماً في كل موقف وكل مجال، لئلا تستبد بنا الأهواء من حيث لا ندرى!!!
الحق إن الحق لا يمكن الوصول إليه بنظرات جزئية شخصانية خاطفة.. بل الحق هو تكامل النظرات الجزئية الفردية المتعددة التي تُرَى فيها الحقيقة من جميع زواياها، دون أن يُسْتَقْطَب الحكم فيها لنظرات جزئية متحيزة.. فالصورة الشاملة للمواقف كلها بجميع زواياها المرئية وغير المرئية هي التي تقام عليها الأحكام العادلة الصحيحة.. وهى التي تحفظ الحق.
فانصفوا الحق وانصفوا الناس.. وامسكوا عن الحكم حتى تكتمل الرؤية ليكتمل النظر.. واذكروا جيداً أن "مَنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ يُقْبِلُ إِلَى النُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِاللهِ مَعْمُولَةٌ" (يو 3 : 21).
تفكير حقانى.. تفكير مستقيم
"وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي أَحَدِ الْمَجَامِعِ فِي السَّبْتِ، وَإِذَا امْرَأَةٌ كَانَ بِهَا رُوحُ ضَعْفٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُنْحَنِيَةً وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَنْتَصِبَ الْبَتَّةَ. فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ دَعَاهَا وَقَالَ لَهَا: يَا امْرَأَةُ، إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ مِنْ ضَعْفِكِ. وَوَضَعَ عَلَيْهَا يَدَيْهِ، فَفِي الْحَالِ اسْتَقَامَتْ وَمَجَّدَتِ اللهَ. فَأَجَابَ رَئِيسُ الْمَجْمَعِ، وَهُوَ مُغْتَاظٌ لأَنَّ يَسُوعَ أَبْرَأَ فِي السَّبْتِ، وَقَالَ لِلْجَمْعِ: هِيَ سِتَّةُ أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا الْعَمَلُ، فَفِي هذِهِ ائْتُوا وَاسْتَشْفُوا، وَلَيْسَ فِي يَوْمِ السَّبتِ. فَأَجَابَهُ الرَّبُّ وَقَالَ: يَا مُرَائِي (أي يا كذاب يا مُدَلِّس يا من تدوس الحق)، أَلاَ يَحُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ثَوْرَهُ أَوْ حِمَارَهُ مِنَ الْمِذْوَدِ وَيَمْضِي بِهِ وَيَسْقِيهِ؟ وَهذِهِ، وَهِيَ ابْنَةُ إِبْرَاهِيمَ، قَدْ رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هذَا الرِّبَاطِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ؟ وَإِذْ قَالَ هذَا أُخْجِلَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ، وَفَرِحَ كُلُّ الْجَمْعِ بِجَمِيعِ الأَعْمَالِ الْمَجِيدَةِ الْكَائِنَةِ مِنْهُ"(لو 13 : 10-17).
فَضَحَ المسيح مغالطة رئيس المجمع التي أراد بها أن يلوى ذراع الحقيقة..
وفضح كذلك تفكيره المعوج ومنطقة السقيم، الذى تجاهل روح الشريعة والتزم بحرفيتها القاتلة..
فَضَحَ المسيح في كشفه للمغالطة والزيف والتفكير المخاتل والمنطق المعوج كل تخلفنا الفكرى وأسبابه الدفينة..
وأوضح بجلاء أن بلوغ الحق لن يكون ممكناً البتَّة إلا بفكر مستقيم يتطهر من مثالب التخلف والالتواء..
بعض أهم أسباب انحرافنا عن إدراك الحق في دقائق وتفاصيل الحياة اليومية هي ظواهر تخلفنا الفكرى..
نحن نفكر بلا منهج.. بطريقة اعتباطية.. وعلى نحو عشوائى، تفكيراً ارتجالياً تسبق فيه كثيراً ألفاظُنا أفكارَنا، فلا يجيء "القول" لدينا مكافئاً "للفكر".. ولا تكون "الكلمة" عندنا على قد "الفكرة".. نحن نتكلم أولاً ثم "نفكر"، أو على أكثر تقدير "نفكر" ونحن "نتكلم"، و"نقول" أكثر مما "نعرف".. أو "نتكلم" دون أن نكون قد "فكرنا" فيما نقول.. فنتكلم زوراً وظلماً وعجزاً وبهتاناً.. ويضيع "الحق" مِنَّا!!!
وإذا كانت هنالك "طريقة" نصطنعها في تفكيرنا فإنما هي طريقة "التبرير الجدلى" التي تطمس الحق تماماً وتتلاعب به..
نحن نفترض سلفاً صواب بعض الأفكار والأفعال ثم نعمد إلى تبريرها، فنلتمس الحجج لتبرير أفكارنا وأفعالنا وظنوننا ومخاوفنا وما نريد أن نُصّدِّرَهُ للآخرين بوصفه الحق وحده، وكأن مهمة الفكر لدينا هي التماس "المبررات" و"المسوغات" لتأييد أفعالنا السابقة وأفكارنا "المسبقة" "الجاهزة"، مهملين تماماً أين يكون الحق والصواب..
وإذا كان "العناد الفكرى" مظهراً من مظاهر الضعف العقلى، فإن "التبرير الجدلى" مظهر من مظاهر الالتفاف على الحق، ولى ذراع الحقائق، والتخلف الفكرى والخلقى والنفسى في آنٍ معاً.
الخطأ الأكبر في "التبرير الجدلى" أنه طريقة فاسدة تستطيع عن طريقها أن تجور على الحق كله، فتثبت ما تشاء كيفما تشاء.. إنه طريقة المخاتل العنيد الذى لا يريد أن يرى الحقيقة ويلتف عليها، لأنه لا يقوى على مواجهتها، ولا يملك شجاعة الحق بما يستطيع معه مجابهة الأمر الواقع..
ولسنا هنا بإزاء الجور على الحق الذى يطمس معالم العدالة والإنصاف فقط.. ولكننا أيضاً بإزاء طريقة فكرية قاصرة يتم بواسطتها التماس المعاذير لأخطائنا الفكرية العتيدة، مهما أفسد ذلك معالم الحياة، ولن يكون بوسعنا أن نخطو خطوة واحدة على درب التقدم إلا إذا أقلعنا عن طريقة "التبرير الجدلى"، التي تعتقلنا في قفص التخلف، بينما هي تدمر الحق والعدل والإنصاف كله...
وليس ذلك فحسب.. فتفكيرنا في معظمه تفكير أسطورى يرتد إلى الماضى السحيق، المؤسس على الاعتقاد في السحر والخرافات والغيبيات والأساطير والخوارق والأعاجيب.. ويتعمق ذلك على نحو غائر في مصادر دينية عتيدة، يتعامل معها الغالبية كمصادر مقدسة لا يمكن مناقشتها، وتلزم طاعتها طاعة عمياء غاشمة.. رغم مناقضتها الهائلة للحق والعدل والصواب!!
نحن جميعاً مازلنا نعمى أعيننا عن رؤية الأسباب الموضوعية للأحداث والسلوكيات لكى نفسرها تفسيراً سحرياً أو أسطورياً أو لاهوتياً أو غير ذلك، مع ما يسببه ذلك من تجاوز للحق والحقيقة..
نحن واقعياً نعيش على مجموعة من الخرافات التي تمثل في نظرنا أفكاراً واضحة يقينية، حتى ليأخذنا الاستغراب والدهشة لأى ظل من الشك حولها، ومجرد التعرض لمناقشتها يُعَدُّ في نظر الناس أمراً مستهجناً غير مشروع، بينما قد تكون أفكاراً واهية أو زائفة أو منافية للعقل، ولا تستند إلى حقيقة بَيِّنَة، بل تطمس الحق وتزدريه.. وتعود بنا إلى المرحلة الأولى البدائية في مراحل تطور الفكر البشرى، ألا وهى المرحلة الغيبية أو اللاهوتية..
الحق أننا لا يمكننا أن ننكر قيمة الإيمان باللـه في تجربتنا البشرية، لكننا نؤكد أن العقيدة الدينية لا يمكن أن تقوم مقام التجربة العلمية، والتفسير الغيبى للأفعال والأقوال والظواهر لا يمكن أن يحل محل القانون العلمى، وليس أمعن في الخطأ ومجانبة الحق من أن يتوهم البعض – خاصة من رجال الدين – أن الأخذ بالروح العلمية هو بمثابة دعوة إلحادية أو اغتراب عن الإيمان الدينى.. إنما الروح العلمية في صميمها هي دعوة إلى فحص الطبيعة التي خلقها اللـه، واحترام لقوانين الطبيعة التي تعمل في الطبيعة ذاتها.. بغية الوصول إلى مزيد من الفهم والتعقل.. وليس من الإيمان في شيء البتَّة أن يحيا الإنسان على الأوهام والخرافات والأساطير، بل الإيمان الحق هو ذاك الذى يبصر الطبيعة بالعقل والحكمة فيمجد الخالق جل جلاله..
إن التفكير الأسطورى الغيبى لا يناقض العقل وحسب، بل يعارض أيضاً الروح الدينية، ومعهما يدوس الحق والعدل، ويخفق تماماً في بلوغهما معاً.
وينسلخ عن التفكير الأسطورى الخرافى مظهر آخر من مظاهر إخفاق الفكر في بلوغ الحق، فنحن تنقلب الأسطورة والخرافة لدينا إلى مجموعة من "الإكليشيهات" الصَّمَاء الجامدة، دون أن نجتهد في البحث عن الحقائق والاهتداء إليها عن طريق البحث الحر النزيه.. فيتحول العقل لدينا إلى التفكير الآلى العقيم الدائر أبداً في فَلَكٍ بعينه، دون أن يمكنه مطاوعة الموضوع المراد بحثه، فيبقى أسير التفكير اللفظى الشعاراتى الإكليشيهاتى، غير مبال بمستجدات المواقف والأفكار، ومجانباً للحق والصواب قبل كل شيء.
ويعمق الوجه المأساوى لهذا النهج الفكرى المتخلف الظلوم، أن التعليم في كل مجال لا يزال يزود النشء بمجموعة من "الإكليشيهات" المحفوظة، دون أن يتعلموا التمييز بين المواقف المختلفة، على غير إدراك مطلقاً لحقيقة أنه ليس المهم أن يُلَقَّن النشء الأفكار الجاهزة، بل المهم أن يتعلموا كيف يفكرون..
إن الغاية العظمى التي ينطوى عليها بناء مَلَكَة التفكير لن تكون هي فقط التفكير السليم.. بل إدراك الحق والإنصاف على نحوهما العادل المستقيم.
إن تربية النشء على التفكير السليم والمنطق المستقيم تتطلب أولاً وقبل كل شيء تربيته على الجدل المنطقى والحوار العلمى لا التسليم والتَّقَبُّل المطلق.. فذلك هو المدخل الرئيسى لبناء قدرته على بلوغ الحق، ليأخذ على عاتقه مهمة التحقق من صحة ما يقرأ ويسمع، والتَّثَبُّتِ من صدق ما يُعْرَض عليه ويتعرض له، فلا يعود المهم هو "مَنْ قال" بل "ما يُقال"، وليس "ما حُفِظَ واسْتُظْهِرَ" بل "الوقائع كما هي"، فلن يعود الحاكم في صواب الأشياء هو النقل عن اسم شهير أو قطب كبير، بل الحاكم في الصواب هو الجهد العقلى في التَّثَبُّتِ من صحة ما ينقل والتدليل على صدقه!!
إن الضرورة تقتضى الآن أن ننتقل انتقالاً جوهرياً في تفكيرنا من الانغماس في روح النقل والترديد والاتباع إلى النقد والتجديد والإبداع، ومهما تكن أهمية التراث أو التقليد فلابد أن نفكر بأنفسنا لأنفسنا، فنفسح المجال للفكر الحر النزيه الذى لا يبغي من العالم سوى الحقيقة المجردة.
وتبقى فى بنيوية الفكر الحالية لمعظمنا سمة في غاية الخطورة على إدراك الحق، ألا وهى "التفكير الإنفعالى"، "فالصبغة الوجدانية" تطبع تفكيرنا الذى قلما ما يكون "موضوعياً" "عقلانياً".
فلقد اعتدنا أن نزن الأمور بموازين ذاتية عاطفية دون أن يكون فى وسعنا أن نحكم عليها حكماً محايداً علمياً.. مما يُضيِّع الحق والعدل ضياعاً مأساوياً..
فالتفكير الإنفعالى هو في صميمه تفكير متحيز بعيد كل البعد عن النزاهة العلمية.. تفكير ذاتى، زئبقى، سريع التغير، يفتقر إلى الدعامة الموضوعية.. وهو سبب رئيسى لضياع الحق وطمسه بين الأحياء.
مـا الحــق؟
ولعلنا الآن نسأل: هل من سبيل إذن لتعلم الحق؟
وهل الحق غاية يمكن تعلُّمُها؟
وهل من دليل نتبعه لنقتنى في أنفسنا القدرة القادرة على تَبَيُّن الحق واختياره؟
تَبَيُّن الحق يتطلب جلاء الفكر واستقامة القلب.. وإذا أمكن للفكر أن يُحوِّل الفهم المنصف إلى استقامة القلب العليل، قد يمكننا لو بدأنا بالفكر المستقيم أن ننتهى في الحق والعدل إلى استقامة القلب.
لا يزال سؤال "بيلاطس" في محاكمة السيد المسيح يتردد بعنف: "ما هو الحق؟"(يو 18 : 38)
وهو السؤال الذى يتردد في أرجاء الكون كله في كل محاججة ومخاصمة ومَظْلَمَة واختلاف.. في كل لحظة وكل مجال..
في كل معاملة على وجه الأرض.. صغيرة كانت أم كبيرة.. على المستوى الشخصى أو المستوى العام.. بين أفراد وجماعات أو بين الدول.. يثور السؤال الأبدى: "ما هو الحق؟" حائراً ضالاً يبحث عن جواب؟
بيد أننا كى نبلغ الحق.. يتعين أن نهتدى بمبادئ حاكمة لن تَبْطُلَ أبداً، بل تعين على بلوغ الحق.. وهذه هي المبادئ التي أرساها يسوع..
يكذب كذباً مفضوحاً ويفتئت على اللـه كُلُّ مُدَّعٍ معرفةَ اللـه بينما في واقعه الحى يأكل الحق وينزع العدل ويجور على الأمانة..
فاللـه هو الحق..
ومن لا يعرف الحق لا يعرف اللـه..
وإذ تعرفون الحق "فالحق يحرركم" (يو 8 : 32)
وليعلم كل بشر أن "النطق بالحق هو النطق باسم اللـه" (2 أخ 18: 15).
"اللـه بار في كل ما يأتي علينا لأنه يعمل بالحق ونحن نُذْنِب" (نح 9 : 33).
لكن غضب اللـه معلن دائماً على "الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ" (رو 1: 18)
"فطوبى للحافظين الحق"(مز 106: 3)، لأن "فِعْلُ العَدْلُ والحَقَ أفْضَلُ عِنْدَ الله مِنْ الذَبِيِّحـَة" (أم 21: 3)، وهو الذى "يُخْرِجُ الحَقُ إِلَىَ النُصْرَة" (مت 12 : 20).