عاطف بشاي
اذا كان محمود السعدنى هو عمدة الكائدين الكبار وكامل الشناوى هو نقيب الساخرين العظام.. فان إبراهيم نصر لمن يعرفه وأنس مثلى بقربه منه.. هو ألفة أكاديمية فنون الكلام.. إذا تحدث تتجلجل الضحكات وتتصاعد حتى البكاء.. ويصمت الجميع.. ويفيض الحكواتى البارع فيستولى على الأفئدة والعقول.. ويأكل الوقت حتى يتصل المساء بفجر يوم جديد.. فلا ينسى قبل أن يودعنا أن يوعدنا فى الأمسية القادمة بأن يخرج من جراب الحكاوى السحرية أطروفات جديدة باهرة وفكاهات عديدة زاخرة.. تنتزع ضحكاتنا الصاخبة.. ويلوح لنا بيديه وهو ينصرف وقد أضحى بوزنه الثقيل.. ريشة رقيقة طائرة.. لقد كان صانعاً للبهجة فياضاً بالإشراق.. وكيف لا.. وهو بخفة ظله المتناهية وسرعة بديهته الحاضرة وجسارة سخريته اللاذعة وعمق إحساسه الذكى بالمفارقة وسوء التفاهم- وهما جوهر الكوميديا- يشكل عالماً بأسره يضخ بالحياة والحب..
وهو «كالمقريزى»- فى ثوب معاصر- يسوق لنا حكاياته من خلال شخصيات عرفها وخابرها وجالسها وسامرها والتقى بها فى حوارى مصر ومقاهيها الشعبية.. حيث يجتمع البسطاء من العامة المطحونين بالفقر وعذابات الدنيا.. ولكنهم أهل ضحك وأبناء نكتة.. يسخرون من واقعهم البائس.. يلتفون حوله فى حب طاغ ويتبارون معه فى حبك القافية ورواية النوادر.. ويشاركهم أقراص الطعمية وشاى الخمسينة.. ويستخلص من شخصياتهم طبائع سجاياهم وعوراتهم.. صلاحهم وانحرافهم.. تجهمهم وبشاشتهم.. خبثهم وبراءتهم.. معاناتهم المؤلمة وأفراحهم الصغيرة.. سعادتهم الشحيحة وتعاستهم الرابضة.. فى مزيج مدهش من تناقضات.. يرويها لنا بأداء كوميدى ساحر.. وقد أضاف إليها من خياله الخصب ملامح فى حركاتها وانفعالاتها ولزماتها ولغتها الخاصة.. ويرتجل بلسانها حوارها الساخر وخلاصة حكمتها ونوازع نفوسها..
كان «إبراهيم نصر» لديه حصيلة ضخمة ومتنوعة ومدهشة من تلك النماذج البشرية من البسطاء من قاع المدينة.. مهمشين وأرزقية وعمال يومية وعلى باب الله.. يتخذون من الضحك سلاح مقاومة لحياه صعبة.. يتشبثون من خلالها بالحياة.. أو من أبناء الطبقة المتوسطة المتآكلة.. فتيات كادحات وموظفون مثقلون بأعباء المعيشة.. وكهول بؤساء يشعرون بأنهم أصبحوا خارج الوجود الإنسانى.. أفرز إبراهيم من خلال تلك الحصيلة شخصية «زكية زكريا».. وقدمها فى برنامج المقالب الشهير عدة سنوات وأخرجها رائد لبيب.. والشخصية نحت ملامحها وقد درس بوعى كبير أبعادها الاجتماعية والنفسية.. متمثلة فى فتاه شعبية يخاصمها الجمال.. ترتدى ملابس بسيطة وتعانى من رقة الحال.. ومن العنوسة لذلك فهى ما إن تلتقى بضيف الحلقة حتى تبادره فى لهفة متسائلة: إنت مرتبط؟ّ!.. وفى لزوجة مصطنعة ولجاجة تفرض نفسها عليه.. ويحاول إبراهيم نصر أن يتسلسل بخبث وادعاء إلى حوار يحاول أن يستنبط من خلاله مدى استجابة الضحية للمقلب الذى يدبره له.. ورد فعله.. وتتنوع ردود الأفعال وتتناقض باختلاف التركيبة النفسية والاجتماعية وثقافة الضحايا وأعمارهم وجنسهم.. وتمثل ردود الأفعال تلك طرافة.. وتكشف عن المفارقة المدهشة لسلوك الشخصيات.. ويظهر الكثير من السلبيات مثل الأفكار النمطية والمعتقدات السائدة والصور الراسخة والعادات والتقاليد الثابتة التى تتكرر فى ردود الأفعال والتصدى للتلاسن والاشتباك وأحياناً العدوان على مقدم البرنامج.. دون التفكير مطلقاً فى اللجوء إلى الشرطة.. والمفاجأة بالمبادرة الجسورة للزوجات فى مواجهة إبراهيم نصر، بينما يسيطر الإحجام والتراجع على الأزواج فى معظم الحالات!!
وقد نجح البرنامج نجاحاً جماهيرياً كبيراً.. استطاع فيه إبراهيم نصر أن يحوله من مجرد برنامج ترفيهى مسل إلى برنامج كاشف عن أحوال الناس والمجتمع.. ولم ينجرف لحظة واحدة إلى الاساءة أو التجريح أو التطاول على ضيوفه أو التلاسن معهم فى حوار مبتذل.. بل يجعلنا البرنامج نتأمل ونفكر ونضحك..
هذا عكس ما يقدمه «رامز» الآن والذى لا يمكن تصنيفه باعتباره برنامجاً ترفيهياً.. فهو ينطوى على ترويع الآمنين من الضيوف والمشاهدين والسخرية منهم.. وإهانتهم وتجريحهم بما يدعى معرفته بأمور حياتهم الشخصية بقلب بارد وسادية بشعة..
كان «إبراهيم نصر» فناناً موفور الكرامة عزيز النفس لم يقف على باب منتج ولم يطارد مخرجا ليمن عليه بدور.. ولم يسع لصحفى أو ناقد ليكتب عنه.. فبقى خارج دائرة اهتمام صناع الدراما فى السينما والتليفزيون.. فتجاهلوه وخسروا منجماً ثميناً من موهبة عاتية.. وفى سوق الكوميديا أصبح الأراجوزات والبهلوانات والمهرجون نجوماً..
رحل «إبراهيم نصر» فاختفت الضحكات وانكمشت ملامح المتفكهين الكبار.
Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم