تلاحقت أصداء الصراخ في أرجاء القرية الصغيرة بإحدى المحافظات المصرية، وتوقفت عربة الشرطة أمام منزل من ثلاثة طوابق، وبعد دقائق حمل رجال الإسعاف المجني عليها إلى المشفى، وقد فارقت الحياة، بعد أن سدد الجاني 14 طعنة في عنقها، وتركها مضرجة في دمائها، وفر من مسرح الجريمة، وكثف رجال المباحث تحرياتهم للقبض على الجاني، وكشفت اعترافات «سائق الحافلة» غموض مقتل «كاميليا» ابنة شقيقه.
وقعت هذه الجريمة البشعة في أحد أيام شهر ديسمبر من العام قبل الماضي، عندما استيقظ أهالي القرية الهادئة على صوت صراخ وعويل من أحد المنازل، وكانت والدة "الضحية" قد اكتشفت عقب عودتها من السوق مقتل ابنتها الوحيدة "كاميليا" بعدة طعنات، وفي عنقها سكين، والدماء مُتناثرة في جميع أرجاء الغرفة، وانهارت الأم من هول الصدمة، بينما ارتسمت علامات الحزن على وجوه المتحلقين حولها، وبادر أحدهم بإبلاغ الأجهزة الأمنية، وبعد دقائق حضر رجال الشرطة لمعاينة موقع الحادث، وتكثفت التحريات لتحديد هوية القاتل.
الطب الشرعي
أظهرت المعاينة أن الجثة بها 14 طعنة بأنحاء متفرقة بالجسم، وسلامة جميع منافذ الشقة، وتم رفع البصمات، نقل الجثة إلى مشرحة المستشفى، وبالعرض على النيابة العامة قررت انتداب لجنة من الطب الشرعي لتشريح الجثة وبيان سبب الوفاة، وتشكل فريق بحث جنائي لكشف غموض الواقعة وضبط مُرتكبيها.
وفي مساء ذلك اليوم، كان الجاني يتلقى العزاء ببرود قاتل، بينما الأم لا تكف عن النحيب والبكاء، وتنادي على ابنتها، بكلمات موجعة، ولم تفلح مواساة جاراتها في التخفيف عنها، وقد صارت وحيدة بعد أن فقدت زوجها قبل عدة سنوات، واكتملت المأساة بمقتل فلذة كبدها بهذه الطريقة البشعة، لاسيما أن الضحية تتمتع بسمعة طيبة، وكانت فتاة في ريعان شبابها، وتتأهب للالتحاق بالجامعة، وتحقيق أمنيتها أن تصبح يوماً طبيبة، وتعالج المرضى بعد أن صارت يتيمة، إثر وفاة والدها بمرض عضال.
استيقاظ الضمير
انصرف المعزون، وصعد عم الضحية إلى شقته، وظل يفكر في أحداث الجريمة، وأصابه الأرق، وخايلته صورة الضحية، ودخل في نوبة بكاء عارمة، وقد استيقظ ضميره بعد فوات الأوان، وشعر أنه على حافة هاوية، والهروب منها يقتضي مغادرة هذا المنزل، ولكن العقبة الوحيدة كانت في زوجته المقيمة عند أهلها، إثر خلافات نشبت بينهما، ولا معنى للتصالح معها في هذه الظروف التي تمر بها العائلة، ومقتل "كاميليا" بيده الآثمة.
وتذكر العم القاتل أن شقيقه الراحل أوصاه على ابنته "كاميليا"، وحينئذ كان في أيامه الأخيرة، وقد تمكن منه المرض، وأقعده عن العمل، وبعد وفاته، قرر "سيد" السفر للخارج، وأمضى هناك عدة سنوات، ثم عاد ليؤسس شقة الزوجية، ولم يهتم بأسرة شقيقه، وحتى بعد أن تزوج، طلب من زوجته عدم التزاور مع زوجة أخيه، لأنه لا يريد أي مشاكل معها، وظل يمني نفسه بامتلاك المنزل، وشراء نصيب شقيقه، وطرد "كاميليا" وأمها، والتفكير في مشروع استثماري يدر عليه دخلا شهريا، ويكف عن العمل كسائق "ميني باص".
وباتت الجريمة لغزاً حيّر أهالي القرية، وكيف تسلل الجاني إلى منزل الضحية، ونفذ جريمته في وضح النهار، واختفى عن الأنظار دون أن يراه أحد، وما هي دوافعه لقتل هذه الفتاة البريئة التي لم يتجاوز عمرها 16 عاما، ويشهد الجميع بحسن أخلاقها، وتفوقها الدراسي، وقد احتفلت بحصولها على الشهادة الثانوية بمجموع كبير، يؤهلها لدخول إحدى كليات القمة، وأفراد أسرتها ليست لهم خصومات أو عداوات مع أحد.
انتهت مراسم العزاء، وأصر "سيد" أن تبيت زوجته وطفلته في شقة شقيقه، لمواساة والدة "كاميليا" وتلبية طلباتها، ولم يكن يعلم أن أعين رجال الشرطة الساهرة ستكون له بالمرصاد مهما أحكم خطته، ولا يدري أحد كيف سولت له نفسه أن يقتل "ابنة أخيه" ويسدد لها الطعنات، ثم يترك السكين في عنقها، ويصعد إلى شقته، ويتصنع النوم حتى لحظة اكتشاف الجريمة، ووصول رجال الشرطة، وتخيل الجميع أن أطرافه المرتعشة تنم عن صدمته الشديدة، وحزنه على الضحية، بل انه دخل في نوبة بكاء عارمة، كممثل بارع ليبعد عنه شبهة الاتهام، دون أن يدرك ما تخبئه الأيام القادمة، وأن المجرم مهما طال الوقت، سيسقط في قبضة العدالة.
شبح كاميليا
كان شبح "كاميليا" يطارده في النوم واليقظة، ولا يقوى على النظر في عينيي أمها، وفوجئ بزوجته تلملم ملابسها في حقيبة، وتحمل طفلها دون أن تكترث لوجوده، وهددته مرة أخرى بأنه لو تزوج بامرأة ثانية فإنها ستطلب الطلاق، حتى لو لجأت إلى المحكمة، وحينئذ سيتكبد خسارة فادحة، وسيدفع لها مؤخر الصداق، وستكون الشقة من حقها، وعليه أن يبحث عن مأوى جديد ليعيش فيه مع زوجته الثانية.
تلقى سيد تهديدات زوجته بعدم اكتراث، وأشار لها بالانصراف قبل أن يفقد السيطرة على أعصابه، وينزل بها أشد العقاب، ولكنها سخرت منه، وقالت: "لولا ظروف أم المرحومة مكنتش رجعت البيت تاني، ومش بعيد تكون أنت اللي قتلتها" وحين هم باللحاق بها، أغلقت الباب في وجهه، وتركته يدور في أرجاء الصالة، ووجه الضحية يلاحقه أينما ذهب.
عادت "منال" زوجة سيد إلى منزل أهلها، وأخبرت أمها أنها قامت بواجب العزاء، ولا معنى لحياتها مع زوج يريد أن يجلب لها "ضرة" ويبدد أمواله على المخدرات، وفي غرفتها انسالت دموعها في صمت، ولم تدر هل كانت تبكي حياتها التعيسة، أم على "كاميليا" الفتاة البريئة التي أحبتها كابنتها، وراحت ضحية طعنات غادرة، واستبعدت أن يكون زوجها وراء هذه الجريمة البشعة، رغم أنها قالت له ذلك قبل خروجها من الشقة، ولكن نظرات عينيه الجامدة، وارتعاشة جسده، وراءهما شيء غامض، ولم تستطع تفسيره، ورجحت أن يكون اضطرابه لحزنه على ابنة شقيقه.
كلمة شرف
فكرت هدى في سنواتها الماضية، وقصة زواجها من "سيد" رغم اعتراض أسرتها، وكان قد تقدم لخطبتها بعد عودته من السفر بالخارج، وحينئذ كان في الخامسة والعشرين من عمره، وقرر الاستقرار في قريته، واستثمار مدخراته بشراء "ميني باص" والعمل عليه سائقا، وكان يمتلك شقة في منزل العائلة، ولكن العقبة الوحيدة أمام زواجه، كانت سلوكه الطائش وعدم استكمال دراسته، وحالفه الحظ أن يتزوج وينجب طقلا من زوجته الأولى، وتفجر الخلاف بينهما حول تأخره الدائم عن المنزل، وتعاطي المخدرات، بل انه هددها بزواجه من أخرى، وعليها أن تختار بين العيش مع "ضرة" أو الطلاق.
وحاول "سيد" أن يقنع أهل زوجته بأن خلافاتهما عادية، وأنه لا يفكر في الزواج عليها، ولكنهم اشترطوا عليه أن يوقع لهم على "شيك" بمبلغ كبير، حتى لا يتزوج على ابنتهم، وتأمن من غدره بها، وأقنع نفسه بأنه ليس ساذجا حتى يوافق على هذا الشرط، وباتت علاقتهما مهددة بالانفصال، وحاول أن يقنعها بالعدول عن موقفها، وأنه سيتغاضى عن غيرتها الزائدة من أجل طفلهما، وأنه لا يعدها إلا بكلمة شرف، بأنه لن يتزوج من امرأة أخرى.
ووقع "سيد" في المحظور، وارتبط بعلاقة غير شرعية مع امرأة سيئة السمعة، وتحين غياب زوجته عن المنزل، لدعوتها إلى زيارته بين حين وآخر، وترك "هدى" معلقة بين توقيع "الشيك" ووعد قطعه على نفسه بعدم الزواج من أخرى، بل انه حول شقة الزوجية إلى ملتقى لأصدقاء السوء وتعاطي المخدرات.
مأساة الضحية
ضاقت كاميليا بسلوك عمها، وعدم اهتمامه بالحفاظ على تقاليد العائلة، واعتادت أن تسمع وقع الأقدام الصاعدة إلى شقته، وأصوات ضحكاتهم تشتت تركيزها في مراجعة دروسها قبل امتحان الثانوية العامة، وشكت لأمها من الضجيج الذي لا ينقطع طوال الليل من الطابق الثاني، وضرورة أن تحسم هذا الأمر، حتى لو اضطرت لإبلاغ الشرطة، ولكن الأم هدأت من روعها، وقالت لها: "اصبري يا بنتي وركزي في دروسك... انت تعرفي عمك وسيزيد من عناده، وبكره زوجته ترجع وينتهي كل شيء".
كان منزل عائلة كاميليا يقع على أطراف القرية، ويطل على مساحة من الأراضي الزراعية، ولم يكن أحد يشعر بالضجيج المنبعث من شقة عمها، ولكن سمعته السيئة ترددت على ألسنة الكثيرين، بل إن بعض زميلاتها في المدرسة، كن يعايرنها بعمها مدمن المخدرات، ولم تدرك الفتاة الصغيرة أنها ستدفع حياتها ثمنا لمواجهة عمها، وتهديده أنها ستبلغ الشرطة إذا استمر في السهر مع أصدقائه داخل شقته.
في يوم وقوع الجريمة، خرجت الأم لتقضي احتياجاتها من سوق القرية، بينما وقفت "كاميليا" تراقبها من النافذه، كأنها تلقي عليها نظرة الوداع، وفوجئت باقتراب إحدى السيدات من المنزل، ودخلت مسرعة من البوابة، فهرعت من مكانها، ونظرت إلى أسفل، ووجدت عمها يستقبلها أمام شقته، فهرعت مسرعة إليهما، وصرخت في عمها غاضبة، بينما هربت السيدة قبل افتضاح أمرها، وحاول العم أن يمتص غضب ابنة شقيقه دون فائدة، فدفعها فوق الدرجات، وأدخلها إلى شقتها، وهو ينهال عليها بالصفعات حتى سقطت مغشية عليها، ثم التقط سكينا من المطبخ، وطعنها في عنقها، وأزال بصماته من فوق أداة الجريمة، وصعد إلى شقته.
كشف الغموض
كانت المهمة صعبة على رجال المباحث لكشف غموض مقتل كاميليا، لعدم وجود أي خيط يقود إلى الجاني، وتعددت احتمالات الجريمة، واتسعت دائرة التحريات في طرق كثيرة ومُتشعبة، وعلى مدار 15 يوماً توالت أقوال الشهود، ومنهم والدة المجني عليها، ونفت أن تكون الجريمة بدافع السرقة، ولم تتهم أحدا بارتكابها، واستدعت النيابة عم الضحية، وبدوره رفض أن يوجه الاتهام لأحد، وقال إنه كان نائماً وقت وقوع الجريمة، وانه يعيش بمفرده في شقته، لوجود خلافات مع زوجته وأهلها، ولكن هيئته أثارت ارتياب المحقق، وأمر بعمل تحريات مكثفة عنه، وتبين أنه سيئ السمعة، ويقيم سهرات مع أصدقاء السوء، ويشتبه في أنه يتعاطي المخدرات.
ومع تضييق الخناق على المشتبه فيهم، لم يبق إلا عم المجني عليها، والمقيم معهم بذات المنزل، ووردت معلومات سرية لفريق البحث تفيد بوجود علاقة غير شرعية بين سيد "سائق ميني باص" عمره 30 عاما، وامرأة سيئة السمعة، ومن هنا التفت حوله دائرة الشبهات، ووجه إليه الاتهام بقتل ابنة شقيقه، وبمواجهته اعترف تفصيلياً بارتكاب الواقعة.
اعترافات المتهم
وجاء في اعترافات المتهم أن ابنة أخيه تطاولت عليه في يوم الحادث، وأنها شاهدته برفقة إحدى السيدات، والتي تجمعهما علاقة غير شرعية، وهي تأتي إليه بشقة الزوجية في غياب زوجته لخلافات بينهما، وانتابه الخوف من افتضاح أمره، وقرّر التخلّص من "كاميليا" دون وازع من رحمة أو شعور بالذنب، وبرر فعلته أنه كان تحت تأثير المخدر، ولم يستطع السيطرة على انفعالاته.
وتتابعت اعترافات المتهم أنه ظل يضربها حتى أفقدها الوعي، وانتهز فرصة غياب أمها عن المنزل، وأدخل الضحية إلى غرفتها، وأحضر سكينًا، وتعدي على المجني عليها بطعنات متتالية، حتى استقر السكين بعنقها، والدماء سالت من جميع أنحاء جسدها وفارقت الحياة، فأزال البصمات من أداة الجريمة، وذهب إلى شقته، وتصنّع النوم حتى اكتشفت الأم مقتل ابنتها.
وأعاد المتهم تمثيل الواقعة في مسرح الجريمة، وانهارت الأم مرة ثانية، فور دخول "سيد" في قبضة رجال الشرطة إلى غرفة "الضحية" وعقدت الصدمة لسانها، حين علمت أنه القاتل، وتعالت صرخاتها، بينما اقتيد المتهم مرة أخرى إلى سراي النيابة، وأمر المحقق بحبسه على ذمة القضية، إلى حين مثوله أمام المحكمة، ومعاقبته على جريمته النكراء.