الأنبا إرميا
بعد مقالة «الشر... والإنسان»، وصلتنى رسائل عديدة ينحصر معظمها فى مفهوم الحرية وعَلاقتها بالبشر وبمصائرهم؛ لذٰلك أود أن أكتُب اليوم عن «الحرية». وكما ذكرت سابقًا فإن الله ـ تبارك اسمه ـ وهب للإنسان الحرية ليختار الطريق التى يرغب السير فيها؛ وقد عبّرت الأديان جميعها عن أهمية كرامة الإنسان، وحريته الموهوبة له من الله. حتى إن الله ـ تبارك اسمه ـ ترك للإنسان حرية الاختيار فى اتباع وصاياه، أو رفضها، مع تحمله لمسؤولية اختياره؛ ففى «المسيحية»: ««اُنْظُرْ. قَدْ جَعَلْتُ الْيَوْمَ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْخَيْرَ، وَالْمَوْتَ وَالشَّرَّ، بِمَا أَنِّى أَوْصَيْتُكَ الْيَوْمَ أَنْ تُحِبَّ الرَّبَّ إِلهَكَ وَتَسْلُكَ فِى طُرُقِهِ وَتَحْفَظَ وَصَايَاهُ وَفَرَائِضَهُ وَأَحْكَامَهُ لِكَيْ تَحْيَا وَتَنْمُوَ، وَيُبَارِكَكَ الرَّبُّ إِلٰهُكَ...» وفى «الإسلام»: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَآ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَآ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلَآ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدْتُمْ وَلَآ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾. وهٰكذا خلق الإنسان بتلك الهبة: أن يختار الطريق التى يريدها.
وصاحبت تلك الحرية وصية من الله إلى أبينا آدم من أجل أن يحيا سعيدًا: أن من جميع شجر الجنة يأكل عدا «شجرة معرفة الخير والشر». ويتساءل بعضٌ: لِمَ لم يمنع الله الإنسان عن الأكل من الشجرة قسرًا دون وصية؟ ألم يكُن قادرًا على ذٰلك؟! بلى، إن الله قادر على فعل كل أمر، إلا أنه لا يتراجع عن هباته للإنسان ومنها حرية إرادته؛ لذٰلك قدم لأبينا «آدم» النصح والإرشاد فى الوصية، محذرًا إياه من نتيجة المخالفة: أى الموت؛ ثم ترك له حرية الطاعة.
ثم جاءت التجرِبة حاملة معها إغراءً عظيما: «تصيران مثل الله»! وبدأ يدُب فى أعماق البشرية سعى جديد نحو الكمال، ورغبة الإنسان فى أن يسيطر على جميع الأمور؛ فإنه يريد أن يصنع من ذاته إلٰهًا ـ حاشا!! وهٰكذا اختفت معالم الحرية الحقيقية فى هرب الإنسان نحو ذاته ورغباته، متناسيًا التزاماته نحو أخيه الإنسان والإنسانية، وغض بعض البشر أبصارهم عن مسؤولياتهم فى احترام حريات الآخرين، وضاع العدل من قلوبهم.
وبذٰلك أصبحت رحلة البشرية على الأرض هى طريق يسعى فيها بعضهم لأن يجعلوا من ذواتهم مراكز اهتمام؛ فلم يهدأ سعيهم نحو امتلاك أشياء تمكنهم من تحقيق ذٰلك: كالمعرفة، والقوة، والسلطة، وامتلاك الأموال، وغيرها. وفى خضم ذٰلك الصراع، نسوا أو تناسَوا أن الحرية الحقيقية ليست فى ممارسة حرياتهم وتقييد حريات الآخرين بالتحكم فى أمورهم أو مصائرهم، بل إنها تتضمن فى ذاتها احترامًا لحريات كل البشر، وكما ذكر «أبراهام لنكولن» محرر العبيد: «من يُنكر الحرية على الآخرين لا يستحقها لنفسه».
لقد خُلق الإنسان من أجل رسالة عليه مسؤولية تأديتها، وقدّم الله إليه فى الوصايا والتعاليم طرق الخير التى تؤدى إلى نجاحه ونجاح الآخرين؛ والابتعاد عن هٰذه الوصايا: كما نراها فى مبادئ العدل، والحكمة، والتعاون، والأمانة، والإخلاص، والإصرار... إلخ، التى تحمل الخير إلى الإنسان والعالم، لَيُعد تخليًا عن عوامل النجاح والبناء. أما انتهاج الطرق الملتوية فى الحياة، وإن أظهرت نجاحًا فى بادئ الأمر، فلن تقود إلا إلى الفشل وتدمير حياة البشر جميعًا.
لذا علينا أن ندرك أن أمام البشر طريقين لا ثالث لهما: إما أن يسلكوا بمبادئ الخير وإما أن يجنبوها من حياتهم، إما أن يعملوا بتفانٍ لأداء رسالاتهم مساندين بعضهم بعضًا بالتشجيع والتعاون، وإما أن يعملوا من أجل ذواتهم بعضهم على حساب بعض بالسيطرة على المصائر أو بكسر النفوس وتحطيمها؛ ويا لَبالغ الأسف: هٰذا ما تشهِد به صفحات تاريخ العالم، وما يواجهه اليوم!! و... وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى!
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم