مراد وهبة
التيار الشائع بين النخبة المصرية والعربية والإسلامية يكمن فى إيثار لفظ مدنى بديلاً عن لفظ علمانى بادعاء أن لفظ علمانى سيئ السمعة لسببين: السبب الأول أنه مصطلح غربى، وكل ما هو غربى هو استعمارى، وكل ما هو استعمارى فهو مرفوض. والسبب الثانى أن لفظ علمانى مرادف للفظ كافر على نحو ما هو وارد فى تاريخ الفكر الإسلامى الأصولى. وخطأ النخبة هنا مردود إلى الخلط الزائف بين ما هو استعمارى وما هو ثقافى. فما هو استعمارى هو فى أصله أسلوب اقتصادى يلتزم به المتقدم حضارياً فى استثمار المتخلف حضارياً. أما ما هو ثقافى فهو من حق كل إنسان أيا كانت سمته الحضارية. ولا أدل على ذلك مما يحدث للمثقفين المبدعين. ففى أمريكا المتحضرة شاع مصطلح «المكارثية» المنسوب إلى جوزيف مكارثى فى عام 1950 للتعبير عن الإرهاب الثقافى الموجه ضد المثقفين الأمريكيين الشيوعيين.
هذا عن السبب الأول، أما عن السبب الثانى فيكفى القول إن مفهوم التكفير فى ذلك الفكر الإسلامى الأصولى مردود إلى عدم مشروعية إعمال العقل فى النص الدينى على نحو ما هو وراد عند ابن تيمية فى قوله إن التأويل الذى هو إعمال العقل فى النص الدينى رجس من عمل الشيطان لأنه بدعة. وفى مواجهته يقف ابن رشد فى قوله بضرورة إعمال العقل فى النص الدينى للكشف عن المعنى الباطن، ومن ثم فلا تكفير مع التأويل.
هذا من حيث ادعاء النخبة فى حذف لفظ علمانى. إلا أننى هنا لن أقف عند حد رفض هذا الادعاء، إنما أتجاوزه إلى تحليل لفظ مدنى، وهو على النحو الآتى:
يقال أولاً مدنى فى مقابل دينى فهل هذا القول مشروع؟
أظن أن الجواب بالسلب، لأن مدنى معناه أنه يعيش فى المدينة، والمدينة تتميز عن القرية فى أنها تختص بالتجارة والصناعة والقانون. ومن هنا نشأت الرأسمالية فى المدينة. ولفظ bourgeoisie مرادف للفظ رأسمالية، لأن المقطع الأول من اللفظ الفرنسى bourg معناه المدينة. والدين وارد فى المدينة منذ نشأتها، وبالتالى لا يصح القول بالتعارض بين ما هو مدنى وما هو دينى.
وقد يقال ثانياً بأن لفظ مدنى مرادف للفظ الفرنسى Laique لائيكى. فهذا اللفظ معرب عن اللغة الفرنسية، وهو يعنى تعايش الحريات بوجه عام وتعايش الاعتقادات بوجه خاص، لأن الاعتقاد ليس ثمرة ضغط دولة أو ضغط مجتمع أو ضغط رأى عام، إنما هو ثمرة اختيار.
وبناء عليه، فأنا أظن أننا فى حاجة إلى حوار حول المفاهيم الثلاثة: مدنى وأصولى وعلمانى. وهذا الحوار من شأن المثقفين إذا أرادوا أن يكون لهم دور ثورى مع ثوار 25 يناير وثوار 30 يونيو. لأن مع كل ثورة يلزم تغيير النسق الثقافى بحيث يساير قيم الثورة، وهذا التغيير ليس ممكناً من غير مثقفين. ومعنى ذلك أن الذى يحسم الجواب عن السؤال المثار فى البداية هو المثقف الثورى، إذ هو الذى سيحدد مستقبلاً هوية مصر، وأظن أنه سيحددها فى ضوء العلمانية وليس فى ضوء الأصولية، لأن الأصولية مفهوم ماضوى، فى حين أن العلمانية مفهوم مستقبلى.
نقلا عن المصرى اليوم