فاطمة ناعوت
(حين نُسلِّمَ الأرضَ إلى الله/ سيكون علينا أن نُعيدَ الكونَ سيرتَه الأولى: نزرعُ الغاباتِ التى أحرقناها/ وننفخُ من أرواحِنا فى الهياكل العظميّة التى وأدنا الروحَ فيها/ نُعيدُ للطيرِ أمانَه وزقزقتَه/ تلك التى تعلّمَ أن يُسكتَها/ كلمّا مررنا نحن البشرَ جوارَ شجرة/ نُعيدُ الصحراءَ صحراءَ/ والمروجَ فراديسَ/ ثم نلصِقُ التفاحةَ المأكولةَ/ فى شجرة الخطيئة الأولى/ كى يحبَّنا الُله/ ندرّبُ أنفسَنا/ أن نسيرَ فوق الرمال/ دون أن تدهسَ أقدامُنا الطُولى/ أسرابَ النمل الطيبة/ …../ سيقفُ «ابنُ رشد» بين المذبح والمحراب/ ليقول:/ «الحقُّ لا يضادُّ الحقَّ!»/ ثم نقفُ أمامَ اللهِ فى صفٍّ طويل/ لنشهدَ/ كيف نحنُ جعلنا الحقَّ/ يُضادُّ الحقّ).
هذا مقطعٌ من قصيدة قديمة كتبتُها عام ٢٠٠٧، عنوانها «قرطبة»؛ بعد رحلة تأمّل امتدَّت سنواتٍ حول كل ما صنعه الجنسُ البشرى ضدَّ الطبيعة من عَسْف وتجبُّر واستقواء. كيف اعتدينا، نحن بنى الإنسان، على الأشجار والأنهار والبحار والجبال والغابات والطير والحيوان. كيف استخدمنا عقلنا، جوهرة الترقّى، لنقتل الحياةَ التى لوّن اللهُ تعالى بريشتها لوحةَ الوجود على نحو لا يُبارى فى الجمال والاكتمال. كيف لوّثت عوادمُ سياراتِنا وقطاراتِنا وطائراتنا ودخانُ مصانعنا صفحةَ السماء المشرقة وألبستها دثارَ الغبار المعتم. كيف أزهقنا روح البراءة فى الأرض، بنيران الحرائق والقنابل ولون الدم. كتبتُ تلك القصيدة وأنا أخشى من انتقام الطبيعة الوشيك. لكننى لم أدرِ يومًا أن أشهدَ بعينى ثأرَها القاسى الفاشى، فقد ظننتُه يأتى بعد برهةٍ من الزمان لا أشهدُها. وكان انتقامُ الطبيعة هادئًا، على قسوته، حاسمًا وحادًّا ونهائيًّا، كما يليق بجبروتها الأنيق. قررتِ الطبيعة أن تتنفَّس بعيدًا عن زفيرنا المشبَّع بالعنف والبغضاء والعنصرية والأنانية. أطلقتْ أصغر جنودِها ليُنفِّذَ المهمة. فنحن البشر أضعفُ وأهزلُ من أن تُرسل لنا الطبيعةُ جنودًا من كبار صفوفها الأولى مثل البراكين والزلازل والأعاصير المدمرة. أرسلت لنا كائنًا ضئيلا لا يُرى بالعين؛ ليحمل رسالتها إلينا: «عودوا إلى دياركم ودعونى ألتقط أنفاسى التى مزقتموها بهوائكم الفاسد حتى ارتفعت درجة حرارة جسدى بمعدلات غير مسبوقة توشك أن تدمرنى وتدمركم». وأجبرنا أصغرُ جنودها، فيروس كورونا، على العودة إلى ديارنا على نحو كونى شامل، فخلتْ صفحةُ السماء من الطائرات، وتوقّفت تروسُ المصانع، فخسرتِ البشريةُ مليارات جمعتها خلال رحلتها فى قتل الطبيعة.
خلال الحجر المنزلى القسرى الذى أرغمتنا الطبيعةُ عليه لكى تتنفس؛ حدث ما يلى من محاولات استعادة الطبيعةُ سحرَها الغائب على أيادينا: التأم ثقبُ أوزونها فوق القارّة القطبية، الذى ثقبته عوادمُنا. تحسّنت جودةُ الهواء فى ٣٣٧ مدينة حول العالم بنسبة ١٢%، لمجرد مكوث الإنسان فى بيته وكفِّ عدائه الفطرى ضد الطبيعة بعوادم السيارات المسؤولة عن انبعاثات الكربون. خرجت قطعان الغزلان تتجوّل فى شوارع لندن دون خوف من سخافات البشر. عادت الطيورُ المهاجرة لتحلِّقَ فوق شواطئ «أجوا دولسى» فى بيرو. تجوّلت أسرابُ البطِّ فى شوارع باريس بكامل الحريّة والأمان، دون خوف من دهس العجلات. وفى مدينة البندقية الإيطالية، شاهد الناسُ أسرابَ الأسماك الملوّنة تسبح بالقرب من سطوح المياه، بعدما صارت نقيّة شفافة من جديد، وظهر البجعُ على صفحات البحيرات. فى نيودلهى انطلقت جماعاتُ القِرَدة تتجوّلُ فى الشوارع الخاوية لأول مرة منذ ملايين السنين. ولأول مرّة منذ دهور أمكن التقاط صور واضحة لجبال الهيملايا من زوايا بعيدة، بعد استحالة ذلك من قبل بسبب دثار العتمة الذى كان لوّث نسيج الهواء بنفايات البشر. استردتِ الطبيعةُ بعضًا من شبابها وصحّتها بعدما غاب الإنسانُ عن المشهد، رغم أنفه خوفًا من جائحة كوفيد١٩، أصغر جندى من الصفوف الخلفية لجيش الطبيعة الشرس الذى لا يُقهر.
لم نحترم صبرَ الطبيعة علينا، ولم نفهم مغزى الرسائل القصيرة التى دأبتْ على إرسالها لنا بين الحين والحين تدعونا للتعقّل والرحمة والنظافة والسلوك القويم معها ومع عائلتها المترامية. منحتنا الطبيعةُ الطعامَ والشرابَ والملبس والحُلى والديار التى نسكنها، مثلما منحتنا الإلهامَ والفنون والتشكيل والنحت واللون والموسيقى والإيقاع المذهل الذى علّمنا بحورَ الشِّعر ومقامات النغم. منحتنا الأكسجينَ لنملأ رئتينا بالحياة. منحتنا النفطَ لنُكدِّسَ خزائننا بالأموال ونستقوى به بعضنا ضد بعض. منحتنا ضوءَ الشمس وبهجات القمر وتلألؤ النجوم. منحتنا كل جميل خلقه اللهُ العزيزُ الحكيم لكى نتعلَّم ونترقّى ونعلو ونزيدُ الطبيعةَ جمالا والأرض إعمارًا والناسَ حبًّا واللهَ شكرًا وامتنانًا. لكننا لم نتعلم إلا بعد هذا الدرس الصعب، وهو على الله يسير. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم