الأجهورى: بكيت لوفاة شاب مصاب بالسرطان وكورونا.. و4 مرضى في يوم واحد
فى الرابع عشر من مايو الجارى، دق هاتف الطبيب الشاب عبدالجواد حسين الأجهورى، البالغ من العمر 30 عاما، زميل يبلغه أنه جرى اختياره للانضمام للفريق الطبي، الذي سيتوجه في اليوم التالي لمستشفى عزل بلطيم، وهو المستشفى الذي خصصته وزارة الصحة، ليكون أول مستشفى لعلاج مصابي الوباء العالمي الجائح فيروس كورونا المستجد، الاتصال أربك الطبيب على الرغم من أنه انتظر هذه اللحظة كثيرا، منذ بدء الأزمة، لكن تفكيره في طفلته التي لم تبلغ من العمر 10 أشهر جعله للحظة يشعر بالقلق.
مكالمة هاتفية مدتها دقائق، لكنها تركت فى نفسه قلقا وفخرا في نفس الوقت: "بطل جهز نفسك، بكرة هتكون في مستشفى العزل الصحى ببلطيم، خلاص جرى اختيارك هتكون فى الفريق وباذن الله تكونوا عون وسند لمرضى كورونا"، انتهت المكالمة وبدأ الطبيب في التفكير كيف يستطيع تحضير نفسه وابلاغ أهله في هذه المدة البسيطة، كيف سيرتب أموره داخل مستشفي كفر الشيخ العام، مكان عمله وفى عيادته، لم ينل التفكير من وقته لحظات، وقرر أن ينضم تلبية لنداء الوطن ولمداواة مرضي الفيروس، اغلق عيادته وجهز حقيبته استعدادا لمهمته الجديدة.
قبل التوجه لمستشفى عزل بلطيم، كان عليه أن يودع زوجته وطفلته ووالدته، بأنه سيتوج للمستشفى، وسيكون بين صفوف أبطال الجيش الأبيض، معتذرا لهم على اضطراره قضاء عيد الفطر بين المرضى، وليس بينهم: "من بداية الأزمة وكل شغلنا الشاغل، هيبقى دورنا أيه وازاى هنشارك، ونخدم البلد ونساعد المرضى، توقعت فى اى وقت المشاركة لخدمة مرضانا والوطن".
بطل الجيش الأبيض: "أسرتي ودعتني بالبكاء ودعمتني بالدعوات.. الطفل علي دعمنى"
وأضاف الأجهوري، "كان صعب عليا القرار في آواخر شهر رمضان، دا معناه إنى هقضي العيد فى المستشفى، كان نفسي أقضي أول عيد مع طفلتى حور البالغة من العمر 10 أشهر، مكنش قدامى غير الموافقة، ووقفت شغلي، لأني مؤمن إنها رسالتى اللى ربنا بعتهالي، وواجب محتوم، بلغت زوجتى واهلى ووالدتى، لكن كانوا قلقانين، البكاء الشديد كان هو الرد عليا، أى حد مكانهم هيبقى كدة، دا فيروس مش معروف، وبرغم أن زوجتى كانت داعم ليا، منذ بداية الأزمة، لكن مكنتش متوقعة أنى أقضي العيد فى المستشفى، مش معاهم، بكت وقالتلي هتسيبنا ليه دلوقتى، لكن قدرت أقنعهم وأهديهم، توقيت اختيارى للمشاركة صعب، لأن الأعياد ليها طقوس معينة، كان نفسى اشتريى لبنتى ملابس العيد مع مامتها، بس عاوز أقولها انك فى يوم من الأيام هتفتخرى بانى أبوكي".
شعور بالرهبة انتاب طبيب الباطنة العامة بمستشفى كفر الشيخ العام، حين وصل لمستشفى العزل ببلطيم، الهدوء الذي يسيطر على المكان، إلا من صافرات سيارات الإسعاف، وصوت المرضى الهادئ داخل الغرف، لكنه سرعان ما تذكر أنه جاء لأداء رسالته، وهى مساعدة المرضى، ورسم البسمة على وجوههم، والتخفيف من معاناتهم ودعمهم.
يقول: "أول ما وصلت حسيت برهبة، رغم إن المكان زى أي مستشفى، لكن الظرف والوضع مختلف، إحنا جايين نحارب عدو خفى، وعلينا دور كبير فى دعم المرضى نفسيا قبل العلاج، بس افتكرت أن ربنا بيختارنا علشان دى رسالتنا، وعلشان المرضى فى احتياجنا، كلنا من أطباء لتمريض حتى العمال، كلنا منظومة متكاملة لخدمة مرضى الفيروس، وبدأت اطمن علشان أقدر أخدمهم".
لم يتعود الطبيب الشاب على ارتداء الملابس الواقية، وحينما بدأ فى استلام عمله، شعر كأنها أشياءً ثقيلة: "الملابس الواقية دى حاجة تقيلة جدا، وصعبه مع الصيام والحر، لكن اتعودنا عليها خلاص، مش ظاهر من ملامحك أي حاجة، والمرضى لازم يتعرفوا علينا أول ما بنروح، كنت بحاول أضحك بصوت عالى، علشان يتعودوا على الصوت، بنحاول نرسم البسمة على وجوه المرضى، لأننا مؤمنين أن أصعب ما يوجهه مريض كورونا هو الالم النفسى، لا تواجهنا مشاكل قد المشاكل النفسية، علشان كدة محتاجين دعمهم، كلنا معرضين للاصابة، لأنه مش اختيارى، محتاحين نظهر للعالم دعمنا للمصابين".
داخل جدران المستشفي تنتاب الطبيب الشاب مشاعر مختلطة، بين الفرحة بسلبية نتائج البعض، والدموع لوفاة حالات، حتى ولو لم يعرفهم من قبل، يقف وزملاءه صامدين في مواجهة الفيروس الغامض، يحاول التخفيف عن آلامهم، والشد من آزرهم، متسلحا بدعوات والدته وزوجته، خلال الدقائق البسيطة التي بتحدث إليهما فيها، ودعوات المرضى الذين يقضي أوقاته معهم.
ويؤكد الطبيب: "ببقى فرحان لما مريض تتحول نتيجة تحاليله لسلبية، احنا بندعم المرضى، وينخفف عنهم، كفاية اننا بنقضى وقتنا كله لمدة 14يوم معاهم، أصبحوا أهالينا وأخواتنا، وبقضى الوقت مع زمايلى، بنقعد نفكر ونتمنى أن ينتهى الوباء، بندعم بعض، وبنحاول نشد على أيد التمريض اللى بيعتبر خط الدفاع الأول فعلاً، كلنا بنحس أننا أسرة واحدة خلاص، مصيرنا واحد".
الطبيب: "أتمنى انتهاء الفيروس ودعم المصابين نفسيا من المجتمع"
خلف الملابس الواقية، يحاول الطبيب إخفاء دموعه التي تتساقط منه حين يمر بمواقف صعبة داخل المستشفي، لكنه يتعمد عدم إخفاء إبتساماته حال وجود ما يستدعى الفرح: "الملابس دى بتخفى دموعنا، بنمر بمواقف صعبة وبنبكى ومش بنظهر للمرضي علشان نفسيتهم، اصعب مواقف، اختلاط المشاعر، مُطالب فى لحظة معينة تضحك وتبقى فى قمة الفرح، وأنت بتبلغ مريض بسلبية نتيجته وانه خلاص هيخرج، وفى لحظة بعدها بدقائق تبكى لوفاة مريض بين أيديك، عمرى ما هنسى فرحة مريض بكورونا وأنه هيروح وبكى فرحاً وسجد لله شكرا، وعمرى ما هنسي حب وإحتواء أسرة كلها مُصابة، الحب اللى بشوفه في عيون الأمهات والأباء تجاه أولادهم، الحنا والدعوات فى رمضان وقضاءهم اليوم مابين العلاج والصلاة وقراءة القرآن، والطفل علي، 13 سنة، قاعد لوحده وراضى بقضاء الله، على كان كويس مكنش بيعانى من أي أعراض، كنت بدعمه نفسيا أكتر من العلاج وهو كان بيدعمنى بالطاقة الايجابية".
موقف صعب جعل عبد الجواد يبكي: "أصعب المواقف، كانت وفاة 4 مرضى كورونا فى يوم واحد، وصلينا عليهم الجنازة، لم اتمالك نفسى من البكاء، والدموع نزلت دون أن أدرى، كان بينهم شاب 21 سنة، كان بيعانى من سرطان فى العظام، بعد حجزه بـ5 أيام، بنمر بمواقف صعبة كتير، وعلينا التحمل علشان خاطر المرضى، علشان كدة بتمنى الوباء ينتهى والناس ترجع لطبيعتها وحياتها، والأهم اننا ندعمهم منحسسهمش ان المرض ده وصمة عار، في ناس كانت بتخاف تقول انها مابة بالفيروس".