الانبا موسى
تحدثنا فى العدد الماضى عن بعض حقوق الإنسان فى المسيحية، وذكرنا منها
1- ما المقصود بالحرية؟ يختلف مفهوم الحرية مع التطور السياسى والاقتصادى العالمى، وظهور الهيئات والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة، من أجل حق تقرير المصير، والتخلص من الاستعمار، والحريات الشخصية فى مواجهة السلطة وحرية التعبير.
ولكن حين وجهنا السؤال للشباب ركزت الإجابات على الحريات الشخصية، خاصة فى مواجهة سلطة الوالدين.
ويمكن ملاحظة الارتباط الوثيق بين الحرية وتحمل المسؤولية.
فمنذ الطفولة يتحول الإنسان تدريجيًا إلى الاعتماد على النفس، يتناول طعامه بنفسه، ويرتدى ملابسه، ويختار أصدقاءه، وينظم لعبه ثم مكتبه، ويستذكر دروسه دون إشراف الوالدين.
ويتضح هنا تراجع سلطة الوالدين تدريجيًا، مع تزايد تحمل المسؤولية الشخصية، هذا دون إجحاف بدور الوالدين فى النصح والتوجيه.
وهذا يؤكد الرابطة بين الحرية والمسؤولية، فكل قرار أنت حر فيه، بشرط أن تكون مسؤولاً عن النتائج المترتبة عليه. وذلك على كل المستويات: من مسؤولية الطالب عن نجاحه أو فشله الدراسى، إلى مسؤولية الطبيب عن الدواء الذى وصفه لمريض، إلى مسؤولية الكاتب عما عرضه فى الجريدة، إلى مسؤولية السائق عن حادثة سيارة.. إلى مسؤولية الحكومة عما تتخذه من قرارات، وتؤثر على المجتمع. إن الحرية والمسؤولية صنوان لا يفترقان.
2- الحرية وحقوق الآخرين: «بِهَذَا أَوْلاَدُ اللهِ ظَاهِرُونَ، وَأَوْلاَدُ إِبْلِيسَ: كُلُّ مَنْ لاَ يَفْعَلُ الْبِرَّ، فَلَيْسَ مِنَ اللهِ، وَكَذَا مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ» (يوحنا الأولى 10:3).
إن أهم حدود الحرية هى حرية واحترام حقوق الإنسان الآخر، فمثلاً استخدام التليفون أو الموبايل أو التليفزيون أو وسائل التواصل الاجتماعى، حرية، ولكن يجب ألا يزعج صوتها الجار، وألا يعطل آخر يريد أن يستذكر. بل إنه فى بعض المناطق أصبحت هناك عقوبات على استخدام «كلكس» السيارة! كذلك تم منع التدخين فى أماكن كثيرة، لأنه يضر بالآخرين، وما تتم مراجعته حاليًا حول إلقاء النفايات البشرية والكيميائية والنووية.
إن تعليم أولادنا احترام حريات وحقوق الآخرين هو التدريب العملى ليشبوا كبارًا يتمسكون بالحقوق ويقومون بالواجبات.
3- الحرية واحترام القانون: هناك قوانين متعلقة بمواعيد العمل، واختصاصات كل موظف، والزى: المدرسى أو زى المضيفات، أو الممرضين، أو الأطباء أو رجال الجيش والداخلية.. إلخ، وكذلك احترام إشارات المرور، واحترام التعليمات فى الانتخابات، والتعامل مع الرؤساء، والهيئات، والشركات، والبنوك.. هناك قوانين تنظم الحريات والتعامل، وذلك فى كل مناحى الحياة... فالحرية المطلقة وهم كبير، وضوابط القانون أمور أساسية للتمتع بالحرية الملتزمة.
4- الحرية واحترام التقاليد: فكل مجتمع له تقاليده وعاداته، والخروج عنها يجعل الإنسان مرفوضًا أو موضع نقد! مثل نوعية الملابس، فتختلف ملابس الهنود، عن اليابانيين، عن الأوروبيين. كذلك يختلف أسلوب التحية والسلام، وموقف المرأة فى المجتمعات المختلفة، وحتى ما يقدم على المائدة، فحرية كل فرد عند إشباع احتياجاته هى داخل الهامش الذى يسمح به المجتمع وتقاليده.. والتقاليد
هى ضمانات أخرى للحرية الملتزمة.
5- الحرية فى مواجهة الإنسان نفسه: حتى فى مواجهة الإنسان لنفسه هناك حدود للحرية، ولا يحق له أن يدمر ذاته أو يقتلها! وإذا ضبط أنه يسعى لذلك، تقيّد يداه، أو يوضع فى مصحة نفسية.. حماية لنفسه وللمجتمع. وأمام الله قاتل نفسه هو قاتل، فالذى ينتحر تجاوز أبعاد الحرية التى أعطيت له، فلقد أُعطاه الله حق رعاية نفسه وليس قتلها!.
6- الحرية ومسؤولية الإنسان عن شخصيته: إن حرية الإنسان لا تعنى خروج الجسد أو العاطفة عن المبادئ التى يتمسك بها، أو المعتقدات والاقتناعات العقلية.
فالتدخين مثلاً أو تعاطى المخدرات لا يعنى أن الإنسان حر، بل يعنى أنه غير قادر على قيادة حياته وتحديد مساره. وهو استعباد للعادات السلبية وليس تحررًا. والتخلص منها هو التحرر من عبوديتها. الإدمان عبودية وليس حرية.
وحتى عدم قدرة الإنسان على ضبط شهواته، وأهوائه، ونزعاته وحدة انفعالاته، هو نوع من الخضوع لها، وهو أسوأ من الخنوع لسلطات خارجية، «كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ» (يوحنا 34:8) وكل تحرر يتطلب قوة مقاومة وجهادا من أجل الانتصار، وهو ضمن خطوات بناء الشخصية القوية.
7- الحرية والانقياد للأصدقاء: عجيب أمر الفتى الذى يرفض تمامًا الخضوع لأى أوامر أو نواهٍ من سلطة عليا، حرصًا على كرامته وحريته، ثم ينقاد إلى شلة تتحكم فيه دون مناقشة، أو حتى مراجعة لقراراتها، وأثر ذلك على مستقبله وحياته وكيانه، ومادام احتمال الانسياق للشلة قائمًا، فيجب التدقيق أصلاً فى اختيار الأصدقاء، إذ يقول المثل الإنجليزى: «الصديق مثل رقعة الثوب يجب أن يكون من نفس النسيج».
أنت حر حين تختار الصديق، ولكن بعد ذلك لا تضمن التأثير إذا أسأت الاختيار.. ومن المهم أن نربى أجيالنا على اختيار الصديق الصالح، وألا يتصوروها حرية أن ينساقوا وراء أصدقاء أشرار يدمرون حياتهم ومستقبلهم.
8- الحرية وأمانة الجهاد: هناك جوانب من الحياة لسنا أحرارًا فى اختيارها مثل الأسرة، المدينة أو القرية، والوطن، والجنس، واللون وغيرها من الصفات الوراثية. وهنا يجب استغلال الحرية فى الحدود الممكنة. وكثير منا يلقى مسؤولية فشله على الله، وأما النجاح فينسبه لنفسه.
نسمع ذلك عند ظهور نتائج الامتحانات، أو فشل الزيجات: كل إنسان حر، فى حدود ظروفه وقدراته، يختار طريقه، ويشكل حياته. وعليه أن يتكيف مع ما لا يمكن تغييره، يقبله كواقع ويتفاعل معه، يعدل ويصلح ما يمكن إصلاحه، مستعينًا بقوة الله.
9- الحرية فى علاقتنا بالله: لقد خلق الله آدم وحواء حُرّين، وأكلا من الشجرة على عكس الأمر الإلهى، ولكن تم حسابهما، لأنهما وكل بنى آدم مسؤولون أمام الله. إن الإنسان مدعو لأن يكون ابنًا لله!. والأنبياء والرسل عبر العصور يبلغونهم الدعوة، لكن الاستجابة هى مسؤولية شخصية. إن الحياة مع الله لا تلغى حريتنا، بل تضيف إليها، إذ إن الله يعطينا قوة النصرة على إغراءات العالم، وضغوط الجسد، وإثارات الآخرين، ومحاربات الشيطان! لهذا يقول الرسول بولس: «إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ... لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ» (غلاطية 13:5).
10- الحرية الحقيقية: هى حرية الروح، وإمكانية النصرة. فالحرية هى القدرة على الاختيار، والقدرة على الانتصار. وهذا ممكن بقوة الله الذى يعمل فينا بنعمته الإلهية، فنكون أقوياء أمام إغراءات الشر، ومنتصرين بقوة عمله فينا، وبأمانة جهادنا معه. والإنسان المؤمن يضع لنفسه ضوابط مهمة مثل:
أ- الضمير: الذى يتحدث داخلنا.. كصوت من إلهنا المحب.
ب- الأسفار المقدسة: التى تنير طريقنا.
ج- رجل الدين: الذى يفسر لنا كلمة الحق..
د- قوانين الدولة التى نعيش فيها: إذ يعلمنا الكتاب المقدس: «لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِىَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ... أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ... وَلَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ، لأَنَّهُ لاَ يَُحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثًا...» (رومية 1:13-7).
الله يعيننا لنعرف مشيئته المقدسة، وبفعلها بفرح وثقة، فتنمو حياتنا بكل مناحيها.
لمجد الله تعالى.. له كل المجد.
* أسقف الشباب العام
بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية