عادل نعمان
فى مقال «وقفة مع العدالة»، على صفحات «المصرى اليوم»، تساءل الدكتور زياد بهاء الدين: هل العدالة قيمة مطلقة ينبغى التمسك بها فى كل الأحوال؟أم قابلة للإرجاء فى ظل الظروف الراهنة؟ وهل للعدالة أهمية حينما يكون البلد مهددا بوباء قاتل وتراجع فى النشاط الاقتصادى أم أن هذه الظروف تبرر غض النظر والتعامل معها بمرونة؟ وحتى نمر بسلام من هذه الإجابة، ودون حرج، ستكون الإجابة مطلقة، على عموم البلاد والعباد، ولن نخصص لها شعبا أو بلدا.
وحتى لا تشعر ببعد الإجابة عن السؤال، نقرر معا أن أول خطوة فى بناء منظومة العدل هى حسن اختيار وانتقاء وترشيح القائمين عليه والمراقبين على تنفيذه، وأتصور أنهم لو كانوا كذلك لأجابوا بصدق عنى وعنك. ولما أسأنا وأفسدنا بأنفسنا الاختيار كانت كل الأسئلة بلا إجابة، وكذلك مستمرون. وأعود إلى سؤالك، فلو كان السؤال موجها إلى الحاكم، أى حاكم، لكانت الإجابة نعم، العدالة تقف على الأبواب مع بقية الفضائل التى تسعى وتتوق إليها الشعوب حتى تمر البلاد من عنق الزجاجة، أو المحنة، أو الإرهاب أو الوباء، ولسان الحال يقول: (عندها نشبعكم عدلا وحرية وديمقراطية)، وتظل الشعوب حبيسة الأنفاق وأعناق الزجاجات، لا تتنفس حتى يشيب كل الصغار ويموت كل الكبار، شيك يا سيدى بلا رصيد، وغير مضمون السداد، حتى لو كان مقبول الدفع، والأوراق أوراقهم والأختام أختامهم، والوباء وباؤنا. ولو كان السؤال للخاصة وللنخبة، لكانت الإجابة على النقيض، فالعدالة عندهم حكمها مطلق، ليست لها علاقة بالوباء أو الداء أو البلاء، تقوم وتجلس وتروح وتجىء، والمعركة حولها لا تقربها، والنيران تشعلها ولا تحرقها، والموج يجرفها ولا يغرقها، والوباء يتفشى ولا يصيبها، وكأن العدالة لابسة طاقية الإخفاء، بل أكثر من ذلك، فهى عمياء تتحسس وتتلمس وترص القوالب دون تمييز أو تصنيف، الغريب يا سيدى أن هذه النخب فى بحثها وشقائها عن العدالة، عطاياهم للبسطاء والفقراء والدهماء، هم أنفسهم يبيعونها على قارعة الطريق وعلى أبواب اللجان الانتخابية بدراهم معدودة، ويتنازلون عنها لمن يظلمهم يوما، وتعال أذكرك بحكاية هذا الثائر الباحث عن العدل للمظلومين، لما قبضوا عليه، وأثناء محاكمته، كانت شكوى واستياء أحد فقراء قريته، الذين ضحى من أجلهم، أنه ومن معه كانوا يزعجون «خرافه»، العدل يا سيدى عند العامة والبسطاء على حدود حظائر الخراف والفراخ، واقف لا يتحرك منذ كان للعدل يوما مولد وميلاد، ثابت عند حوافره وتبنه، وعاء العدل يا سيدى عند هؤلاء ممزوج برغيف خبز مغموس فى قليل من الماء، ويحبسون بكوب شاى مغلى، ويرفعون أيديهم إلى السماء يدعون بالبركة لمن حرمهم متعة الحياة، وهم يا سيدى لا يشغلون أنفسهم بأنهم تقدموا يوما يشكون الثائر عن خرافهم، أو وقفوا على قارعة الطريق يدللون: «صوت انتخابى للبيع»، ولا يعرفون أنهم قد خذلوا الثائر فى الأولى، وخذلوا أنفسهم فى الثانية، ولا يدرون أنهم قد باعوا ما هو أكثر من ذلك.
مشكلة كل القيم، وعلى رأسها العدل، أن تعريفا محددا لا يجمعها عند العامة والخاصة، ولا يتفقان على كمال المنفعة والمصلحة لكليهما، أحدهما يلملم فتات خبزه وبقايا ملابسه الرثة المهلهلة، وإذا فاض عليه الحاكم بالقليل حمده وشكره ودعا له بطول العمر، والآخر يشد على يديه، ويربت على كتفه، ويدفعه إلى الأمام عله يأخذ حقه وحظه من الحياة والخير والحرية، إلا أنه يشيح بوجهه عنه، باحثا عن خرافه، أو سمسار يبيع له صوته، بل الأدهى والأمر أن الحاكم، «أى حاكم»، متفق مع العامة على تعريف واحد، العلاقة واضحة ومحددة بينهما، ولا تجد بينهما خلافا، قليل من العدل وكثير من الدعاء.
ستظل العدالة وكل قيم الخير عندنا وعند غيرنا «بوشين»، «ثوبا» يغطى نصف البدن، يوم تحت ويوم فوق، «لقمة عيش» تشبع نصف الجوعى والنصف الآخر ملقى فى صفيحة الزبالة، وعلى عينك يا شعب، نصفها ضحك ونصفها الآخر بكاء، توأمان أحدهما سليم والآخر معاق، إما أعور أو أخرس أو أعرج، وإذا اكتمل بناؤه يوما، فإما أن يحبسوه منفردا أو العدل معه.
تعال يا سيدى أسألك سؤالا آخر: هل نعطى العدل على قدر الحاجة والرضا؟ أم على قدر الحق؟ أم على قدر العلم والسعى؟ هل لو طالب أحد المدعين بحقه، ورأى القاضى أن حقه يتجاوز مطلبه، أيحكم بما يرضيه أم بما طلبه وارتضاه لنفسه وقنع به؟ هل العدل على قدر فهمه أو مفهومه؟ والمسافة بينهما شاسعة عند الحاكم وعند المحكوم، الفهم يضيق ويتسع ويطول ويقصر، ويؤجل فى المحن والشدائد والبلايا إلى أجل غير مسمى عند البعض، وعندى أنا لا أقبل تأجيله ليوم واحد، حتى لو كانت كل البلايا والمحن والكوارث تعشش فى أسقف حجراتنا، فهو الرجاء والأمل، خذ كل شىء يا دكتور وأعطنى عدلا تستقم الأمور فى القريب.
نقلا عن المصرى اليوم