نيرة الشريف
أنا محدش بيحبني
ترددت الجملة السابقة على لسان بطلتين من أبطال المسلسلات الرمضانية التي تُعرض حاليًا، قالتها أيتن عامر “ريهام” في مسلسل “فرصة ثانية” وهي تقف أمام طليقها الذي تُحاول بكل الطرق أن تحصل على محبته واهتمامه، وأمام والدها الذي لا يرجو من الحياة غيرها، قالت الجملة السابقة بينما تضع المُسدس أسفل ذقنها في مُحاولة فاشلة لإنهاء حياتها بسبب شعور افتقاد الحب لديها، صحيح كانت مُحاولة الانتحار فاشلة، لكنها نجحت فيما بعد مع تسلسل الأحداث في إنهاء حياتها بالفعل.
“أنا محدش بيحبني” قالتها أيضًا حلا شيحا “فرح” لصديقتها في مسلسل خيانة عهد، وهي تُحاول أن تشرح لها أسباب كراهيتها لـ”عهد” أختها الكُبرى من أبيها، وكانت “فرح” ترى أن “عهد” حصلت على محبة أبيها واهتمامه، حصلت على محبة كل المُحيطين بها، حصلت على الابن وتمتعت بشعور الأمومة بينما حُرمت “فرح” من هذا النوع من المحبة، فقدان “فرح” لأشكال المحبة التي رأت أن “عهد” تتمتع بها جعلها تكره “عهد” وترغب في الانتقام منها، جعلها تُحاول أن تدفع ابن أختها الوحيد للإدمان، وجعلها تقتله بدم بارد بعدما يكتشف تورطها في إيذائه.
ماذا يفعل بنا شعور افتقاد الحب إذًا؟ يدفعنا للتورط في الانتقام من أنفسنا كما “ريهام”، يدفعنا أن نُدمن محبة من لا يبادلنا الحب، ويقودنا للانتحار، أم يدفعنا للتورط في الكثير من المشاعر السلبية القاسية، والتي قد تجعلنا نفرح بالصعوبات التي قد يتعرض لها الغير ورُبما نسعى لإيذاء الغير إلى الحدّ الذي يقودنا للقتل كما “فرح”؟
ماذا يمكن أن يفعل بنا شعور افتقاد الحب ؟
رُبما كانت إجابات الأسئلة السابقة جميعًا هي “نعم”، رُبما كان افتقاد الحب من الآخرين قادرًا على قتلنا ببطء شديد، على تحويلنا إلى أشباح فاقدين القدرة على الحياة أو التعامل معها بشكل سوي، دعني أقصّ لك قصة “س”، التي كان يُوقعها حظها العثر في قصص حب مُتتالية من طرف واحد، ثلاث مرات تحب من طرف واحد، وكل مرة تشعر أن الحياة قد توقفت، وأن عقارب الساعات لا تتحرك، وأن الأفق قد صار حالك الظلمة، في إحدى هذه القصص المتتالية حاولت “س” الانتحار، لكنها كانت مُحاولة فاشلة كما مُحاولة “ريهام” الأولى.
حينما حصلت “س” على علاقة حب مُتبادلة من طرفين أخيرًا، كانت علاقة شديدة الإيذاء وبالغة الضرر، لتتمكن من تكليل قصة حبها بالزواج، ضحت خلالها “س” بكل شيء، حياتها وعملها ومستقبلها ومُدخراتها ومُدخرات عائلتها لها، دون أن تؤمِّن نفسها بأي درجة من الدرجات، رُبما بسبب أداء “س” هذا، أظهر الشريك حقيقته باطمئنان شديد، وكأن “س” لن تفلت من قبضته أبدًا، وكأن مشاعرها هي قيود أسرها التي ستظل مُكبلة بها إلى الأبد، قام الشريك بإيذائها، وباستنزافها ماديًا ومعنويًا، وجعل مصلحته دومًا هي الأولوية الأولى والأخيرة، ولم يُلقِ بالاً لأي احتياج نفسي أو اجتماعي لدى “س”.
لتجد نفسها بعد مرور سنوات فاقدة بشكل كامل وتام أي شعور بالحب، بالمعنى الحرفي للكلمة، ليس الحب العاطفي فقط، بل الحب بأشكاله المُختلفة، صار الحب، هذا الكائن الأسطوري الجميل الحالم الذي كانت تنبش بأظافرها في الصخر للحصول عليه لأنها توقن بمدى روعته، كائنًا غريبًا عنها، لا تستطيع أن تحب، لا تستطيع أن تفتقد، لا تستطيع أن تُلقي بنفسها في أحضان صديقاتها المُقربات لتشعر بالأمان كما كانت في السابق، فقدت حرفيًا كل قدرة على هذا الشعور أيًّا ما كان شكله، صارت عيناها زجاجتين بلا حزن ولا فرح، فقط عينان زجاجتان بلا روح ولا حياة، تشعر أن صاحبتهما قد تم تجميدها، صارت كما أغنية فيروز “تبكي وتضحك لا حزنًا ولا فرحًا.. كعاشق خط سطرًا في الهوى ومحى”.
ما حدث لـ”س” ليس فقط دخولها في علاقة مؤذية دمرت جانبًا كبيرًا من حياتها، ما حدث هو أنها لم تكن تُدرك أنها تبحث عن الحب، تفتقد الشعور بالمحبة، وهو ما قادها للارتباط بشخصية مُستغلة، رأت هذا الجانب فيها واضحًا وعرفت كيف توظفه لمصالحها.
لماذا يؤذينا افتقاد الحب ؟
حتى وإن كُنت شخصًا نرجسيًا بالغ الأنانية ومُبالغًا في الإعجاب بذاتك، ستكون في حاجة للشعور بالمحبة، لا مفر من هذا، فحتى وإن كانت تركيبتك الشخصية بالغة القسوة مع نفسك ومع الآخرين ستفتقد الحب، وستذبل ويصفر عودك إن لم تجد الشعور بالمحبة في أعين من يهمك أمرهم. الاختلاف هنا يكمن في تعامل كل منّا مع هذا الاحتياج، وكيف يسعى لتلبيته، لكن الثابت هو أننا جميعًا في احتياج لهذا الشعور، أحيانًا نحتاج هذا الشعور من أشخاص مُحددين، وإن لم نحصل منهم عليه نشعر أننا لم نحصل عليه إطلاقًا.
ففي حالتي “ريهام” و”فرح” اللتين نتحدث عنهما، نجد أن سياق المُسلسلين أوضح أن ادعائهما غير حقيقي، فـ”ريهام” لديها أب لم يتمكن أن يعش بعد أن واراها الثرى لحظة واحدة، أب كان يُذاب قلبه في كل لحظة ألم تعرضت له في حياتها، ومع ذلك هي لم ترَ كل هذا الحب، هي وجهت كل طاقتها النفسية والعاطفية للحصول على الحب فقط من “زياد” الذي يرفضها ولا يقبلها، أما “فرح” فلديها زوج مُحب وشقيق داعم حتى ولو في الشر والانتقام، وكان ابن أختها الذي تسعى في إيذائه يُحبها محبة تغار منها أمه، ولكنها أيضًا لم تكن ترى هذا، كانت ترى فقط أنها حُرمت من محبة أبيها الذي أحب “عهد” أكثر منها، فتمكن منها إحساس أن لا أحدًا يُحبها.
إذًا رُبما لا يكون الأمر حقيقيًا، فدعنا نعود لصديقتنا “س” التي قصصنا قصتها، وننظر للأمر من جهة أخرى، “س” لم تكن تستطيع أن تُحب نفسها، بداخلها رفض عميق لنفسها، لا يُعجبها شكلها، لا يُعجبها طريقة كلامها ولا حتى تصرفاتها، بمعنى آخر “س” كانت تكره “س”، لذلك كانت لديها رغبة محمومة في البحث عن الحب والحصول عليه، لأنها أرض جافة مُتعطشة، رُبما لو كانت تمكنت “س” من قبول نفسها ومحبتها كانت وفرت على نفسها كل هذا الألم الذي مرت به.
وهو ما يُمكننا سحبه على “ريهام” و”فرح” أيضًا، لو كانت تمكنت “ريهام” من محبة نفسها لكانت قدَّرتها وما استطاعت أن ترى “زياد” وهو يهينها ويُكرر رفضها مرارًا وتكرارًا، ولو كانت “فرح” أحبت نفسها لكانت استطاعت أن تتخلص من مشاعر الكراهية والانتقام داخلها، لأن من يُحب نفسه حبًا سويًا وبنَّاءً حقًا يُدرك أن الكراهية تؤذيه وتشوهه أكثر مما قد تؤذي أو تشوه غيره، لذا فهو لا يطيق أن يجعل قلبه مسكنًا للكراهية، ولا روحه خادمًا مُطيعًا لها.
ورُبما يكون هذا لنا جميعًا، لو تمكننا من محبة أنفسنا لاستطعنا رؤية أي شعور بالمحبة حولنا، وتقديره والامتنان له، ومقدار ما نُضيّق أدمغتنا ونرى الحب من منظور واحد ضيق فقط، وإن لم نحصل عليه من خلال هذا المنظور نشعر أننا لم نحصل عليه قط، هو ذاته المقدار الذي يُعبر عن وجود مُشكلة مع أنفسنا يجب أن نُفتش عنها ونحلها قبل أن نبحث عن الحب في الأماكن الخاطئة، ونحصل على الكثير من الكدمات والندبات التي لا يزول أثرها، بدلاً من الحصول على حرية الحب وبهجته وانطلاقه.
نقلا عن نون