كتب – محرر الاقباط متحدون ر.ص
بعث البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، رسالة إلى الشعب، بمناسبة اليوم ألإرسالي العالمي، نشر نصها المركز الإعلامي الكاثوليكي بمصر، وجاء نصها :
أودّ أن أعرب عن شكري لله على الالتزام الذي عاشت به الكنيسة جمعاء، الشهرَ الإرسالي الاستثنائي في أكتوبر/تشرين الأوّل الماضي. إني واثق من أنه قد ساهم في تحفيز "التحوّل الإرسالي" في العديد من الجماعات، وفق النهج الذي أشار إليه الموضوع "مُعمَّدون ومُرسَلون: كنيسة المسيح مُرسلة في العالم".
في هذه السنة، التي اتّسمت بالمعاناة والتحدّيات التي سبّبتها جائحة الكورونا، تستمرّ هذه المسيرة التبشيرية للكنيسة بأكملها في ضوء الكلمة التي نجدها في رواية دعوة النبي إشعياء: "هاءَنذا فأَرسِلْني" (أش 6، 8). إنه جواب دائم التجدّد على سؤال الربّ: "مَن أُرسِل؟" (نفس المرجع). تأتي هذه الدعوة من قلب الله، من رحمته التي تستحثّ الكنيسة والبشرية في الأزمة العالمية الحالية. "لقد فوجئنا، مثل التلاميذ في الإنجيل، بعاصفةٍ هوجاء غير متوقّعة. أدركنا أننا كلّنا على متن القارب نفسه، جميعنا ضعفاء ومرتبكون، ولكن في الوقت عينه مهمّون وضروريّون، ومدعوّون جميعًا إلى البقاء معًا، وكلّنا بحاجة إلى تعزية بعضنا البعض. فجميعنا... على متن هذا القارب. ومثل هؤلاء التلاميذ، الذين يقولون بصوت واحد وبقلق: "إنَّنا نَهلِك" (آية 38)، أدركنا نحن أيضًا أننا لا نستطيع أن نتقدّم كلّ بمفرده، إنما معًا فقط" (تأمل في ساحة القديس بطرس، 27 مارس/آذار 2020). نحن مذعورون حقًّا ومضطربون وخائفون. إن الألم والموت يجعلانا نختبر ضعفنا البشري؛ ولكنهما في الوقت عينه، يجعلانا نعترف بأننا نتشارك جميعًا برغبة قويّة في الحياة والتحرّر من الشرّ. في هذا السياق، تأتي الدعوة الإرسالية والدعوة إلى ترك الذات محبّةً بالله والقريب كفرصة للمشاركة والخدمة والشفاعة. إنّ الرسالة التي يوكلها الله إلى كلّ شخص تجعلنا ننتقل من الـ أنا الخائف والمنغلق على ذاته إلى الـ أنا الأصيل والمتجدد عبر هبة الذات.
لقد أظهر الله، في ذبيحة الصليب، حيث تمّت رسالة يسوع (را. يو 19، 28- 30)، أنّ محبّته هي لكلّ شخص وللجميع (را. يو 19، 26- 27). ويطلب منّا استعدادنا الشخصيّ لأن نُرسَل، لأن الله محبّة في حركة إرساليّة دائمة، ويخرج دائمًا من ذاته كي يهب الحياة. وقد أرسل الله الآب ابنه يسوع محبّةً بالبشر (را. يو 3، 16). يسوع هو مُرسَلُ الآب: إنّ شخصه وعمله هما طاعة تامّة لمشيئة الآب (را. يو 4، 34؛ 6، 38؛ 8، 12- 30؛ عب 10، 5- 10). وبدوره، يجذبنا يسوع، المصلوب والقائم من الموت من أجلنا، في حركة محبّته، وبروحه الخاصّ، الذي يحيي الكنيسة، ويجعلنا تلاميذ المسيح ويرسلنا في رسالة إلى العالم وإلى الناس.
"إنّ الرسالة، أي «الكنيسة في انطلاق»، ليست برنامجًا، أو نيّة يمكن تحقيقها بقوّة الإرادة. فالمسيح هو الذي يُخرِج الكنيسة من ذاتها. وفي رسالة إعلان الإنجيل، أنت تتحرّك لأن الروح يدفعك ويحملك" (بدونه لا يمكننا أن نفعل شيئًا، درا نشر الفاتيكان-سان باولو، 2019، ص. 16- 17). فالله يحبّنا أوّلًا على الدوام، وبهذا الحبّ يلقانا ويدعونا. تأتي دعوتنا الشخصيّة من حقيقة أننا أبناء وبنات الله في الكنيسة، وأهل بيته، وإخوته وأخواته في تلك المحبّة التي أظهرها يسوع لنا. لكن الجميع يملكون كرامة إنسانية قائمة على الدعوة الإلهية ليكونوا أبناء الله، وليصبحوا، بفعل سرّ المعموديّة وبحرّية الإيمان، ما كانوا عليه منذ الأزل في قلب الله.
كوننا قد نلنا الحياة مجّانًا يشكّل دعوة ضمنيّة للدخول في ديناميكيّة هبة الذات: هي بذرة تأخذ لاحقًا شكلًا ناضجًا، في المعمّدين، كجواب حبّ، عبر الزواج أو الحياة البتوليّة من أجل ملكوت الله. إن الحياة البشرية تولد من حبّ الله، وتنمو في الحبّ، وتتوق إلى الحبّ. لا أحد يُستَثنى من حبّ الله، لقد انتصر الله على الخطيئة والموت (را. روم 8، 31- 39) في الذبيحة المقدّسة التي قدّمها يسوع الابن على الصليب. والشرّ بالنسبة إلى الله، -حتى الخطيئة- تحثّ على الحبّ، وعلى الحبّ أكثر فأكثر (را. متى 5، 38- 48؛ لو 23، 33- 34). لذا فإن الرحمة الإلهيّة، في السرّ الفصحي، تشفي الجرح الأصليّ للبشرية وتنسكب على الكون كلّه. والكنيسة، التي هي السرّ الشامل لمحبّة الله للعالم، تواصل رسالةَ يسوع في التاريخ، وترسلنا في كلّ مكان حتى يتمكّن الله، عبر شهادة إيماننا والبشارة بالإنجيل، من الاستمرار بإظهار محبّته ولمسِ الأشخاص وتحويل القلوب والعقول والأجساد والمجتمعات والثقافات في كلّ مكان وزمان.
إنّ الرسالة هي جواب حرّ وواعي على دعوة الله. لكن لا يمكننا إدراك هذه الدعوة إلّا عندما نعيش علاقة حبّ شخصيّة مع يسوع الحي في كنيسته. لنسأل أنفسنا: هل نحن مستعدّون لقبول حضور الروح القدس في حياتنا، والاصغاء للدعوة إلى الرسالة، سواء في طريق الزواج أو في البتوليّة المكرّسة أو في درجات الكهنوت، وفي الحياة اليوميّة العاديّة على أيّ حال؟ هل نحن على استعداد لأن نُرسَل إلى كلّ مكان لنشهد لإيماننا بالله الآب الرحيم، ولنعلن إنجيل الخلاص الذي منحه يسوع المسيح، ولنشارك في الحياة الإلهية للروح القدس عبر بناء الكنيسة؟ هل نحن، مثل مريم، أمّ يسوع، مستعدون لأن نكون في خدمة مشيئة الله دون تحفّظ (لو 1، 38)؟ إن هذا الاستعداد الداخليّ هو مهمّ جدًّا حتى نستطيع أن نجيب الله: "هاءَنذا يا ربّ فأَرسِلْني" (را. 6، 8). وهذه ليست فكرة تجريّدية، بل إنها في واقع الكنيسة والتاريخ يوميًّا.
إنّ فهم ما يقوله الله لنا في زمن الجائحة هذا قد أصبح تحدّيًّا أيضًا بالنسبة لرسالة الكنيسة. فالمرض والمعاناة والخوف والعزلة يدعونا للتفكير؛ كما وفقر الذين يموتون بوحدة، أو الذين تُرِكوا لأمرهم، أو الذين خسروا وظائفهم وأجورهم، أو الذين ليس لديهم مأوى وقوت. إننا مَدعوّون، فيما نحن مُلزَمون بالمحافظة على مسافة جسديّة فيما بيننا وبالبقاء في المنزل، لإعادة اكتشاف أننا نحتاج إلى علاقات اجتماعية، وكذلك إلى علاقة جَماعيّة مع الله. وهذا الوضع، يجب أن يجعلنا أكثر انتباهًا لطريقتنا في الارتباط مع الآخرين، لا أن يزيد عدم الثقة واللامبالاة. والصلاة، التي بها يلمس الله قلبنا ويحرّكه، تفتحنا على حاجة إخوتنا للمحبّة والكرامة والحرية، وكذلك على رعاية كلّ الخليقة. أمّا استحالة الاجتماع ككنيسة للاحتفال بالإفخارستيا فقد جعلنا نشارك بوضع العديد من الجماعات المسيحية التي لا يمكنها الاحتفال بالقدّاس كلّ يوم أحد. وفي هذا السياق، إن السؤال الذي يطرحه الله "مَن أُرسِل؟"، قد وُجِّهَ إلينا من جديد وينتظر منّا جوابًا سخيًا وواثقًا: "هاءَنذا فأَرسِلْني!" (هو 6، 8). إنّ الله يواصل البحث عمّن يرسل إلى العالم وللناس ليشهد لما منحنا من محبّةٍ، وخلاصٍ من الخطيئة والموت، وتحريرٍ من الشرّ (را. متى 9، 35- 38؛ لو 10، 1- 12).
إنّ الاحتفال باليوم الإرساليّ العالميّ يعني أيضًا إعادة التأكيد على أنّ الصلاة والتأمّل والمساعدة المادّية التي تقدّمونها هي فرص للمشاركة بشكل فعّال في رسالة يسوع عبر كنيسته. فالمحبّة التي يُعبَّر عنها بالتبرعات، التي ترافق الاحتفالات الليتورجية في الأحد الثالث من أكتوبر/تشرين الأوّل، تهدف إلى دعم العمل الإرسالي الذي تقوم به الجمعيات الإرسالية البابوية باسمي، لتلبية الاحتياجات الروحيّة والمادّية للشعوب والكنائس في جميع أنحاء العالم من أجل خلاص الجميع.
لتتشفّع بنا وتعضدنا مريم العذراء الكلّية القداسة، نجمة التبشير ومعزّية الحزانى، والتلميذة الإرسالية لابنها يسوع.