بقلم- صبري فوزي جوهرة
الآن, وقد اقتربت فترة الحداد الرسمي على انتقال البابا "شنودة الثالث" على الانتهاء، وعملاً بضروريات الواقع الذي يحتم علينا الحفاظ على الكنيسة خاصة في مثل الظروف العاصفة التي تجتازها "مصر", بدأ الحراك لاختيار بابا الإسكندرية الـ 118. وعلى ما يبدو, بدأت الأقوال و"الاقتراحات" والنصائح تتراكم، وظهرت في الأفق البعيد (إلى الآن) علامات "هرجلة" برع فيها المصريون عامة بمن فيهم الأقباط طبعًا. فمن المعروف والواضح أننا نفشل تمامًا عند محاولاتنا العمل الجماعي في سبيل تحقيق أهدافنا الهامة، ذلك لأن كل منا يعتقد أن الله حباه وحده بعقل جبار لا يخطىء، وأن كل رأي أو فكر مخالف حتى بأقل قدر أو درجة إنما هو فاسد يستوجب أن يُدمغ صاحبه بالغباء على ألطف تقدير (فهذا أمر بيد الله وحده)، أو الفساد أو سوء النية أو الخيانة أو كلها معًا، خاصةً إذا انفلتت المشاعر وتدخلت الخلافات الشخصية بين "المفكرين".


واقع الأمر أننا جميعًا لم ننشأ ولم نتعلم قواعد وفوائد ومزايا العمل الجماعي منذ الصغر, فالممارسة الديموقراطية كأي عمل ذي قيمة تستوجب التعليم والتدريب، ونحن- والحمد لله- بين مبدأ أن "كلمة الأب ما تنزلش الأرض" مهما تورط في الخطأ وبين ديكتاتورية الرؤساء بتوع التسعة دايرة واحتراف تزوير الانتخابات, لم نتعلم ولم نتدرب ولم نمارس الديمقراطية في بيوتنا أو مجتمعنا. والخيبة التقيلة التي تشل جهود أقباط المهجر في سعيهم للدفاع الفعال عن ذويهم المضطهدين في مصر لهي أبلغ دليل على هذا الفشل المخجل، فقد تربوا وترعرعوا هم أيضًا في مصر! فإذا شرعوا في عمل مفيد تتحلل جهودهم إلى عبث محزن، حيث أن هذه "الجهود" تنطلق مشتتة في كافة اتجاهات البوصلة فتكون محصلتها صفر، وتسود "الهرجلة" على كل وفي كل ما نحاول أن نفعل معًا.

وبالطبع يشاركنا ذوونا في مصر في هذه الصفة غير الحميدة؛ على سبيل المثال، لم تكن أيام وداع البابا الراحل وهو جالس على كرسيه في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية سوى مظهر مخجل للهرجلة والفوضى، وذلك بغض النظر تمامًا عن لوعة الشعب وأساه لانتقال راعيه الحنون. يزداد الخجل والشعور بالنقص خاصة إذا قارننا هذه الفوضى بما حدث على سبيل المثال عند نياحة بابا "روما"، وكيف كانت الأفراد تمر بأعداد غفيرة الواحد تلو الآخر أمام الجسد المسجى باحترام وصمت وكفاءة وفرص متاحة للجميع: الأقوياء، والضعفاء، رجال، ونساء.

وإذا أوعزنا "الهرجلة" في وداع بابا "الإسكندرية" إلى الحزن الشديد والصدمة القاسية والاندفاع العاطفي المفتقد تمامًا لعامل السيطرة على النفس, وقلنا "معلهش دول غلابة وفقدوا سندهم القوى وأباهم وحبيبهم", وقبلنا هذا السلوك العشوائي غير المنظَّم المسيىء لجلال الموقف على أنه تعبير تلقائي مخلص، كان في هذا خطأ جسيم منا, فالأمر يتعدى المشاعر المنفلتة، ويكشف عن عيوب مزمنة كامنة فينا, لعلها خلقية (كونجينيتال) متأصلة في الجينات المصرية بما فيها الجينات القبطية وهي أكثرها رسوخًا وأصالة في مصريتها!

هذا السلوك المعيب يصبح ضررًا قاتلاً إذا استمر وتكرَّر في إجراءات اختيار البابا القادم الذي سيقع عليه وعلى شعبه عبء الحفاظ على إيمان الكنيسة القويم، بل وعلى استمرارها وبقائها في أرض مصر. لازم نبطل الهرجلة. لازم يكون كل شىء بعد تفكير وتخطيط، وبنظام وبسرعة وكفاءة وأمانة تامة في الأداء. يجب أن تتم إجراءات تنصيب البابا القادم بوضع مبدأ واحد وحيد في عين الاعتبار وهو صالح الكنيسة. ويجب أن يتم اختيار البطريرك الجديد بكل أمانة وسرعة.

يجب الالتزام التام غير المنقوص بقواعد ولوائح راسخة معلنة لا استثناء فيها ولا مفاضلة لمرشح عن آخر. لنتعلم من مأساة التحضير لانتخابات رئيس الجمهورية ونعزف عن التفصيل والتلوين والترقيع وكافة "الحركات القرعاء" المكشوفة لوضع رجل بعينه أو آخر على الكرسي البطريركي. ولا شك أن هناك بعض الجهات التي تعمل أو ستعمل بكل جهد لوضع "رجلها" أو "دميتها المفضلة" على هذه السدة المهيبة.

هناك الطامعون في المناصب والألقاب بغض النظر عن روحانياتهم وقدرتهم الذهنية والعقلية على تحمل ضغوط هذا المنصب الرفيع، أمثال هؤلاء يفتقدون تمامًا إلى الروحانية التي يتطلع إليها الشعب في راعيه ليكون لهم مثالاً يُحتذى. كما أنهم يكونون مباعين للعالم ومظاهره وفاقدين لنعمة الروح القدس الذي يعضد ويساند ويقوي في مجابهة الشر والأشرار، وهذه صدمات محتمة الحدوث خاصة في هذا الزمن المعيب. المتمسك بالكراسي دائمًا ما يكون على استعداد تام للتضحية بأي شىء حتى ما أقسم بالله أن يؤتمن عليه في سبيل بقائه على كرسيه، ولنا في "حسني مبارك" مثال حي (وإن كان مريضًا بأكثر من معنى)، فقد ألقى بوطن بأكمله في الجحيم ليبقى "مدلدل رجليه" على الكرسي!

وهنا أيضًا، اسمحوا لي بأن أفصح بأكبر قدر من الصراحة بأكثر مما كتبت أعلاه، فأوجه الأنظار إلى عدم صلاحية البعض لأي منصب عام, داعيك من منصب بابا الإسكندرية, لأسباب تتعلق بسلوك شخصي معيب أو ساقط، بما في ذلك التواطؤ مع "رجال الأمن" الفاسدين في النظام السابق وربما الحالي أيضًا. لا شك أن مخابرات الدولة على علم تام بهؤلاء (ربما "صوت وصورة")، مما يجعلهم مرشحي الدولة المفضلين لسهولة "كسر عينهم" وإلزامهم بالطاعة العمياء للحاكم مهما جلب ذلك من وبال على الأقباط وعلى كنيستهم، بل وأيضًا وبلا شك على مصر بأكملها, فإن فسدت مؤسسات الوطن- ورئاسة الكنيسة واحدة منها شاء البعض أم أبوا- فلا أمل يُرجى في مستقبل الوطن، وهباء ضاعت أرواح الشهداء الذين سعوا للحرية والعدالة والتقدم.

لقد وضع تقليد الكنيسة الأمر بأكمله في أيدي المجمع المقدس، وهذا أمر جلل، فانتقاء البطريرك القادم هو من أعلى درجات المسؤولية أمام الرب والكنيسة والأقباط ومصر، وقد قيل أنه ليست هناك إلى الآن خلافات أو تكتلات أو أحزاب داخل المجمع، وكأي قبطي مخلص أرجو أن يكون هذا هو الواقع، وأرجو كذلك أن يلتزم المجمع بانتقاء أفضل المرشحين بعيدًا عن الأهواء والضغوط والمناورات، وأن يتمتع المرشحون المقبولون للانتخاب, ومن ثمة للقرعة الهيكلية, بما لا يرقى إلى مجرد الشك في عمق روحانيتهم وبراءة سلوكهم الشخصي الناصع والتزامهم بلا استثناء بالعقيدة الأرثوذكسية.

على المجمع كذلك إبعاد والإقصاء الإيجابي لكل من كان التطلع إلى المنصب هو غرضه الأول، حيث لا شك أن الدولة بحسها السياسي المطلق ورغبتها المعلنة والمستترة في السيطرة على الأقباط، خاصة وقد ظهرت بينهم علامات الصحوة ورفض الاضطهاد, ستعمل بلا كلل لتجليس أحد هؤلاء المتطلعين على الكرسي المرقسي، بل أنني لا أتردد في القول بأن مجرد إشارة الدولة بتفضيل مرشح بعينه تكفي بأن يستبعده المجمع المقدس بلا جدال أو تردد، حيث أن هذا "الزق" في حد ذاته دليل قاطع على فساد هذا الشخص وعدم صلاحيته لأي منصب كنسي, فنحن جميعًا نعلم أن الدولة إلى الآن وفي المستقبل القريب على الأقل لا تعبأ بما فيه خير الكنيسة أو الأقباط، وهي ليست بصديقة لهم. فلنتضرع إلى الروح القدس أن يرشد المجمع المقدس ويبعده عن الخطأ والإخفاق كما يفعل دائمًا، خاصة في مثل هذه المسؤولية الخطيرة.

خطيئة أخرى يجب ألا نقع فيها هي اللجوء إلى الدعايات الرخيصة للمرشحين. فليكن الاختيار في مثل جلال اختيار أسقف "روما", وألا يُسمح لكل من هب ودب بانتخاب البطريرك، فلقد رأينا من انتقت الدهماء من عناصر غير صالحة لتمثلهم في مجلس الشعب المصري. أقول هذا وأنا على علم وثيق أنه لن تُتاح لي شخصيًا فرصة الانتخاب, و ليس في هذا ما يثير الغضب أو يشعل الحقد في نفسي.

أخيرًا, لا شك أن هناك "تعديلات" يجب إدخالها في لائحة انتخاب البطريرك، وذلك بحكم تغير الزمن وربما تصحيحًا لأخطاء وقعنا فيها ومارسناها في الماضي وربنا ستر علينا ولم تضر بالكنيسة، إلا أن هذه التعديلات يجب أن تتداول مشروعاتها في أوقات الاستقرار وليس في أزمنة الأزمات كالتي نحياها الآن.. عندئذ يجب أن يساهم ويشارك العقلاء والمفكرون الغيورون على مصالح الكنيسة بأفكارهم، وتُعرض الأمور للقبول أو الرفض حسب تقليد الكنيسة وتعاليم الكتاب المقدس و"الكومن سنس": مع الرجاء بالتفضل بأن يتذكر الجميع أن:
The most uncommon thing is common sense.، وربنا موجود ويستر.