إبراهيم غرايبة
أسوأ ما ارتكبه الإخوان المسلمون بحقّ الخطاب الديني والتراث الفكري والإصلاحي هو إعادة إنتاجه في خطابات وأوعية ألحقت ضرراً بالغاً بالعلاقة بالدين، علاقة الدولة بالدين، وعلاقة الأفراد بالدين، وعلاقة المجتمعات بالدين، وحوّلت الخطاب الديني إلى حالة تعمل ضد الدول والمجتمعات والأفراد، ففي إدراج مفاهيم وتطبيقات الدولة للدين مثل الحكم والجهاد والحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أداء اجتماعي وتنظيمي غير رسمي فتحت أبواب الشرّ في الولاية الدينية، وفي تسييس التدين الشعبي والاجتماعي وتحويله إلى جماعات منظّمة حوّلت التدين الشعبي والمجتمعي إلى انقسام اجتماعي وسياسي محمّل بالعداء والكراهية، ومنحت هذا الصراع أبعاداً دينية زادته تماسكاً وصلابة وقدرة على الاستمرار، وفي تغيير/ تشويه التدين الفردي تحول المتديّنون من الارتقاء بالذات والسموّ بها إلى مشروعات ذئاب متوحدة مخيفة وغير متوقعة..
يمكن بملاحظة مسار الفكر والجهد الإصلاحي من جمال الدين الأفغاني إلى محمد عبده إلى رشيد رضا إلى حسن البنا إلى سيد قطب إلى أسامة بن لادن، التنبّه إلى مستوى الانحدار والتدمير الذي ألحقه الإخوان المسلمون بالفكر والعمل الإصلاحي، الذي نهض لأجله علماء ومفكرون ورواد في السياسة والإصلاح والفكر منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكيف تحوّل الفكر والإصلاح إلى حالة خروج عن الأمة ثم العالم والتاريخ، بدأت بسيد قطب ولكنها تحولت بعده إلى أسوأ بكثير على يد شباب وقادة في جماعة الإخوان المسلمين وحولها ومن تحت عباءتها؛ مثل؛ شكري مصطفى وأيمن الظواهري وأسامة بن لادن، .. كانت مغامرة قاسية ومدمّرة، ألحقت ضرراً كبيراً بالإسلام الدين والفكرة وبالمسلمين المجتمعات والدول، وبالموقف العالمي من الإسلام والمسلمين ومصالحهم السياسية والاقتصادية.
وإنّه لمن المحيّر والمُحزن أن تكون الحالة الفكرية والإصلاحية الناضجة والمتقدمة التي قدمها الإمام محمد عبده، متقدماً على أستاذه جمال الدين الأفغاني، تؤول إلى سلفية رشيد رضا، وللأمانة فإنها تبدو اليوم سلفية إصلاحية واعية ومتقدمة إذا قورنت بالغرابة والخروج الذي وقعت فيه جماعات الإسلام السياسي، ثم إلى تشكيلات وممارسات فيها قليل من إصلاحية محمد عبده وكثير من الاقتباسات المرعبة للجماعات والتنظيمات الفاشية والباطنية الموغلة في السرية والتطرف، وتيه وخلط فكري وباطنية سياسية وإصلاحية بدّدت الوعي الفكري، واستنزفت أجيالاً من المتدينين والإصلاحيين ثم أدخلتهم في صراعات قاسية ومدمّرة مع الدول والمجتمعات، ولكن ذلك كله كان متقدماً ومعتدلاً بالنسبة الى الحالة الجديدة التي بدأت تتشكل في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين!
لقد دفع سيد قطب الجماعة إلى الخروج عن الدول والمجتمعات والنظر إليها باعتبارها غير مسلمة، وصارت جماعة الإخوان المسلمين تشكيلاً منظماً وواسعاً ولكنه معبأ بمفاصلة المجتمع والاستعلاء عليه، ولكن شكري مصطفى وعبد السلام فرج وأيمن الظواهري وأسامة بن لادن وجدوا الإخوان متناقضين مع أنفسهم؛ بل ومنافقين، يحملون فكر المفاصلة والولاء والبراء ويمارسون مهادنة الجاهلية وترقيعها، فمضوا بنا إلى مواجهة حقيقية ومسلّحة وليس مجرد مفاصلة شعورية (كما ينسب إلى سيد قطب) مع الدولة والمجتمع بل والأسرة والمجتمع الصغير المحيط، وأخيراً إلى مواجهة مدمرة مع العالم بأسره، .. وصارت الدول والمجتمعات الإسلامية رهينة لجماعات مسلحة متطرفة لا يمكن توقع أفعالها وردود أفعالها، ..
ولقائل أن يقول: ولكن الإخوان المسلمين ليسوا جماعات التكفير والقتل والتطرف! وهم يشاركون في العمل السياسي السلمي والإصلاحي من مداخل وقنوات علنية وقانونية متاحة. ويبدو ذلك صحيح من الناحية الظاهرية فقط (كما يحب الإخوان أن يصوروا أنفسهم) أو في بعض أجزاء فهم الظاهرة والحالة، ولكنّها أفكار وجماعات نشأت في البيئة الفكرية والتنظيمية التي أنشأها الإخوان المسلمون، ولا تختلف في أفكارها ومرجعياتها عن الإخوان، بل هم أصحاب ومنشئو هذه الأفكار والمرجعيات، والفرق الوحيد بينهم وبين الإخوان أنهم يطبقون ما يدعو إليه الإخوان ويؤمنون به، ويملك الإخوان من الباطنية والتجربة والمؤسسية والتراكم في القيادات والأجيال والحيل السياسية والتشابك الاجتماعي مع المصالح والمجتمعات ما يجعلهم قادرين، أحياناً، على التوفيق بين العمل السياسي والتطرف الفكري، وهذا أسوأ وأخطر ما في الإخوان المسلمين!
فبالنظر إلى التبريرات الفقهية والتأسيس الفكري والنظري الذي يقدمه قادة وكتاب من الإخوان المسلمين يمكن ملاحظة العقل الباطن واللاشعور الذي يفيض بتكفير الناس والعداء للمجتمعات، والأمثلة كثيرة جداً ومتاحة في الكتب والممارسات العلنية والأخبار والتجارب المتسربة من داخل الجماعة، والتي تؤكد هذا الانفصال الكبير عن السياق العام للأمة والمجتمعات والدول،.. وعلى سبيل المثال فإنّ ما يؤمن به معتدلو الإخوان المسلمين من جواز المشاركة في المجالس النيابية والوزارات مستند إلى أن النبي يوسف كان وزيراً للملك الكافر! لاحظ الاستدلال على الملك الكافر!!!
وبالطبع هناك ردّ متوقع بالكتب والدراسات الفكرية مثل؛ كتاب الحريات العامة في الدولة الإسلامية لراشد الغنوشي، وكتاب الحريات والحقوق السياسية في الشريعة الإسلامية لرحيل غرايبة، وهما من قادة الإخوان المسلمين، ولكنّها مقاربات تواجه التهميش والإقصاء والرفض في معظم سياقات الجماعة، وتعاني هي نفسها من تناقض وخلل، وهي مقاربات، على أية، حال تحتاج إلى وقفة ونقاش مستقل وأكثر توسّعاً.
نقلا عن حفريات