مدحت بشاي
عندما عُرض فيلم «الكرنك» فى مثل هذه الأيام عام 1975، كتب الدكتور يوسف إدريس- الذى احتفلنا بذكرى مولده يوم 19 مايو- نقدًا للفيلم، قال: «أخيرًا شاهدت فى السينما المصرية'> السينما المصرية عملًا يستحق أن نتوقف عنده طويلا، ذلك العمل هو فيلم (الكرنك)، وهو فيلم رأيته متأخرًا كثيرًا... إن مشهد اغتصاب سعاد حسنى كأنه كل ما فى الفيلم أو ما يستحق أن يُشاهد فى الفيلم، المهم ذهبت إلى السينما وجلست ومضيت حوالى الساعتين فى شبه ذهول، ذلك أنى وجدت نفسى أمام عمل رائع بكل ما تحمله الكلمة من معنى، عمل أسخف ما فيه هو المشهد المشهور اغتصاب سعاد حسنى، بل فنيا أضعف ما فيه.. (الكرنك) الفيلم له أبعاد أعمق وأمتع وأكثر أهمية- هذا فى الفيلم- أما القصة التى كتبها زميلنا سيد الرواية نجيب محفوظ فلى فيها رأى آخر، لقد وجدتها شبه ريبورتاج صحفى.. وجدتها أشياء كان يكتبها شكسبير لسد الخانة.. لقد وجدت نفسى فى حيرة، لأنى وضعت نفسى مكان نجيب محفوظ، ذلك الكاتب الذى يعيش قضايانا لحظة بلحظة، فيقول كلمته فنًا كبيرًا أحيانًا و(كرنكًا) فى أحيان أخرى...»!!.
لقد أبدى «إدريس» حيرته حينما وضع نفسه مكان «محفوظ»، كانت حيرته حين جاءت ثورة 15 مايو، وانكشف الغطاء عن هذه الفئة التى لا تدرى شيئا عما يدور، فكان لابد لكاتب ملتزم مثل محفوظ أن يقول كلمته، وأن يكشف عن تألمه بعض الشىء لما نال قصته على يد بعض النقاد، مثله مثل أى والد يستقبح جنينه.. لكن حين رأيت فيلم الكرنك انتهت حيرتى وقلت حسنا فعل نجيب محفوظ، فلولا هذا الهيكل العظمى لرواية الكرنك التى كُتبت وكأنها مشروع قصة أو سيناريو.. لولاه ما كان هذا العمل المروع حقا الكرنك الفيلم.
إن الكاميرا أخطر بكثير من القلم والسينما.. حقاً هى فن العصر.. لكنها عندنا لا تفعل هذا، إنها حتى لا تلمس فوق جلد المتفرج أنه يحس بها كنوع من الهاموش المؤذى الذى يتجمع حول أضواء الكاميرا.
«الكرنك» فى رأيه أكمل ملحمة سينمائية سياسية، السيناريو متكامل، فما أبرعه ممدوح الليثى هنا، وما أعمق لمسات صلاح جاهين حوارًا!!. لأول مرة لا أرى سعاد حسنى جميلة، لأنها انتقلت من مرحلة الوجه الجميل المعبر إلى المعايشة الكاملة للشخصية، وهذا التعمق الخطير لنور الشريف الذى تخطى حدود السطحية، وعلى بدرخان العقل المدبر وراء «الكرنك» العظيم. إن ما جسده الكرنك رهيبًا وموجعًا ودافعًا للنفس إلى الصراخ من الأعماق، فإذا كان هناك ممثلون وأفلام بهذه العظمة، فلماذا التفاهة؟، ولماذا شويكار نفسها التى تؤدى هذا الأداء الرائع تفعل شيئا مثل فيفا زلاطا.
لقد ظل «إدريس» يؤكد أن دور المبدع والمفكر والفنان فى حياة مجتمعه هو دور تنويرى حضارى، وأن التجربة قد علمته أنه يجب على الإنسان ألا يحلم بشكل مطلق، بل عليه أن يتعامل مع الواقع حسب إمكانياته، ومن الواقع يختار أحلامه، فقد كانت له طموحات كبيرة جدًا، وكان يتصور أن مصر عام 60 ستكون جنة الله على الأرض، وسوف لا يكون هناك فقر، وسوف تسود العدالة، كانت كل هذه مجرد أحلام إلى درجة قوله: «لقد أعددت نفسى للموت سنة 65».
نقلا عن المصرى اليوم