عاطف بشاي
علقت فى المسمار قناع مهزلة/ ومعاه قناع مأساه محزنة ابتلى/ بصيت لقيتهم يشبهوا بعضهم/ وأهو ده العجب يا أولاد وإلا فلا/ عجبى..
هذه هى إحدى رباعيات الشاعر العبقرى «صلاح جاهين» والتى لا تعبر فقط عن ازدواجية أو ثنائية الضحك والبكاء.. البهجة والاكتئاب.. العبوس والسرور.. الضجر والمرح.. الفرح والحزن.. المأساه والملهاة.. التراجيديا والكوميديا.. ولكنها تعبر عن جوهر الوجود الإنسانى.. وعبث الحياة ولا جدواها.. وعجائب تصاريف الزمان.. وطبيعة النفس الإنسانية التى يختلط فيها الهزل بالجد.. والعقل بالجنون.. وتتجاوز فيه السخرية معنى الاستهزاء والتهكم فترفع إلى مستوى التأمل والفلسفة والحكمة.. وتداخل المأساة بالملهاة.. ويصبح للضحكات طعم مر.. ومذاق حزين.. وأسى مقيم.. ويصبح الضحك استعلاء على البكاء وتجاوزاً له..
وتتضح هذه الازدواجية فى معظم رباعيات «صلاح جاهين» وفى أخرى يقول: (مهبوش بخربوش الألم والضياع/ قلبى ومنزوع من الضلوع انتزاع/ يا مرايتى ياللى بترسمى ضحكتى/ يا هلترى ده وش ولا قناع؟!) والرباعيات أيضاً تعكس أيضاً طبيعة نفس صلاح المفعمة بهذا التناقض الخلاق.. أو كما وصفه بهجت بأنه كان «شمساً تشع بالفرح رغم أن باطنه كان ليلاً من الأحزان العميقة يداريها ويخفيها عن الناس بوجهه الضاحك..
إن قصائد جاهين إذاً تصدر عن نفس حزينة.. ونغم هامس.. لكنها فى النهاية مأساه ضاحكة.. وازدواجية أو ثنائية الحزن والضحك نلمسها فى أرقى أنواع الكوميديا التى تختلط بالتراجيديا فى دراما الأفلام السينمائية العظيمة القيمة وتسمى بالكوميديا السوداء التى تخاطب وجدان المتفرج وعقله فى نفس الوقت.. ويصبح الضحك فيها نتيجة، وليس هدفاً فى حد ذاته، لصراعات درامية دامية وتناقضات حادة بين الشخصية الدرامية وبين المجتمع.. أو مواقف تشى بسوء التفاهم بين البشر..
وتلك الازدواجية لها تاريخ فقد تنبه لها الإنسان القديم بابتكار قناع الكوميديا الضاحك.. وقناع التراجيديا الدامع.. ووضعهما متجاورين على أبواب المسارح.. والفراعنة كانوا يقضون نصف عمرهم فى الاستعداد للموت عن طريق بناء المعابد والمقابر.. بل إن الملوك خوفو وخفرع ومنكاورع بنوا الأهرامات كى يدفنوا فيها.. وقد كان المصريون القدماء يستغلون أرقى فنونهم وعلومهم فى جعل معابدهم ومقابرهم جميلة وقادرة على البقاء الطويل.. ومقاومة الزمن.. إنهم فى الوقت نفسه يخافون الموت.. فلم يجدوا أمامهم إلا أن يحاولوا استثناءه وجعله موتاً جميلاً أنيقاً.. وأعظم ما بقى إلى اليوم من آثار المصريين القدماء المعابد والقبور.. مما يدل على أن روح الحزن كانت عميقة فى نفوسهم إلى حد بعيد.. لكن رغم ذلك فقد احتفظوا بروح النكتة والسخرية والمرح حتى إن مؤرخاً قديماً وصفهم بقوله: إنهم شعب لاذع القول.. روحه مرحة.. وعلى سبيل المثال هناك نحت بارز على جدار بصور ما يشبه الكاريكاتير الساخر لفأر صغير يطارد قطاً كبيراً مفترساً.. والقط يفر من أمامه مذعوراً.. فما سر هذا التناقض؟!.. وكيف يجتمع الفرح العميق والحزن البالغ فى نفس واحدة؟!..
يقول رجاء النقاش فى كتابه الممتع.. تأملات فى الإنسان من النظرة الأولى تبدو المسألة غريبة ولكن الحقيقة أن الابتسام والفرح هما أرقى تعبير عن الحزن العميق.. فالحزن هو وليد التجربة الكبيرة والخبرة بالناس والأشياء.. إنه دليل على المعرفة الواسعة بالحياة.. والمعرفة هى قلق عظيم.. والإنسان كلما ازدادت خبرته وتجاربه تبين أن الدنيا تنطوى على مأساة.. كل شىء يفلت من اليد.. ويضيع.. الزهور تذبل والوجوه الجميلة تتغضن.. والعواطف الحلوة تذوى.. كل شىء له محطة يقف عندها ويتلاشى ويذوب.. وباطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح.. لكن إذا كان الحزن دليلاً على المعرفة والفهم.. فالفرح والابتسام هما دليل على احتمال الحياة..
وجدير بالذكر أن ثنائية الضحك والحزن فى امتزاجهما فى الدراما من خلال التراجيكوميديا أو الكوميديا السوداء يحتاجان إلى موهبة عالية يتمتع بها المؤلف الدرامى أو السيناريست ومقدرة كبيرة على الانتقال بين المستويين الكوميدى والتراجيدى فى ترابط وتزامن وتناغم بحيث يتحقق الهدف من التراجيديا فى التعبير عن الأحداث العاطفية التى ترتبط بالحزن وتؤثر فى وجدان المتفرج، والمواقف الكوميدية التى تفجر الضحكات من خلال قضايا اجتماعية أو سياسية تؤثر فى عقل المتفرج.. باعتبار أن التراجيديا تخاطب الوجدان والكوميديا تخاطب العقل..
نقلا عن المصرى اليوم