.. وإلي قبل الخامس من يونيو 1967 بأيام قليلة كنت من جيل الأطفال الذين كانوا يخرجون من المدرسة (ساعة المرواح) هاتفين في الشوارع بكل قوة وحماس وعاطفة ينقصها المزيد من الفهم والكثير من الوعي ، ودون أن يدعوهم أحد إلي ذلك أو ينظمهم منظم ..
(.. أبو خالد ياحبيب .. بكره هاندخل تل أبيب) ،
(.. هانحارب .. هانحارب ياإسرائيل ياأرانب )
أنا الطفل الذي كان يشب فوق السرير ليضع أذنه علي الراديو الخشبي الضخم الذي كانت تقف في احشائه اللمبات الكبيرة علي الدولاب المواجه للسرير ، وذلك لألصق أذني قريبًا منه حيث كان يخطب الرئيس جمال عبد الناصر فيشتعل في جسدي الناشئ فوران الحماس ومشاعر الزهو بالمصرية ..
أنا كنت الطفل الذي يستمع لعبد الحليم حافظ الذي يخطب مثل عبد الناصر تماماً وسط الأغنية
(إخواني ..
الحكايه مش حكاية السد )
وكان الأستاذ الذي كان عضواً في وحدة الإتحاد الإشتراكي في مدرستي قد حكي لنا في حصة التربية الوطنية حكاية السد العالي والبنك الدولي وأمريكا وإسرائيل ، وموشي ديان وخلافه ..
ولذلك كانت تثري القشعريرة في جسدي النحيل وقتها عندما يستكمل غنائه (كنا هانبني وآدي إحنا بنينا السد العالي ) ..
أو عندما ينشد عبد الوهاب في مذياع المدرسة لحظة إنصراف طوابيرنا إلي فصول المدرسة (دقت ساعة العمل الثوري .. ودا جيل الأحرار .. تعلن زحف الوطن الثوري .. واحنا الشعب عارفين المشوار) في حين ندق نحن الأطفال بكعوب أرجلنا علي الأرض التي كانت تصعد غبارها إلي حلوقنا فنحس بنشوة طفولية تجعلنا ندخل الفصول كما لو كنا قادمين للتو من معركة حربية ، طبعاً مع كوننا كنا نجهل أصلاً الكثير عن المعارك الحربية إلا فيما رأيناه في فيلم (بور سعيد) لشجيع (السيما) فريد شوقي نجم الترسو الذي كان بطلنا الملهم الذي من أجله كان حرصنا علي ارتياد سينما الثلاثة أفلام كل عطلة أسبوعية وغير أسبوعية بما تيسر لنا من مصروف ندخره لدخول سينما الكيتكات ..
الراديو المتموضع فوق سطح دولابنا إلي جوار أرغفة الخبز المجفف الذي كانت تخبزه أمي كل أسبوع في مخبز ريفي بجوار محطة قطار إمبابه تحجز رؤيته ساتر بني بالطوب الأحمر لأغراض الإختباء من قذائف الحرب وبجوار فتحة كبيرة في الأرض تؤدي إلي مخبأ كبير بني خصيصًا لاحتمال إختباء أهالي الحي الذي نسكن فيه وقت الغارات ..
الراديو يزأر أيضًا بصوت السيدة أم كلثوم وهي تنشد (سير بإيمان وبروح وضمير .. دوس علي كل الصعب وسير .. ) ..
كل الأمور كانت تسير إلي حيث لا أصدق أنا وأترابي ورفاق جيلي وقتها إلا إحتمالاً واحداً هو أننا سنسحق العدو الصهيوني وسنحرر فلسطين بضربة لاتكلفنا الكثير من الجهد ..
إسرائيل إذن ستسقط كلص صغير في يد عملاق قوي الذي هو الوطن العربي الذي يتحدث عنه كل مذيعي الأخبار في تعليقات مابعد النشرة علي الأحداث ..
كل الكبار وقتها كانوا يقولون لنا ذلك .. بقناعة تقترب من الإيمان الديني ..
وجاء يوم الخامس من يونيو
وأعلن الراديو عن أن قواتنا أسقطت ثلاث طائرات ..
وسط هتاف عبد الحليم حافظ (أضرب .. لجل الربيع .. أضرب ) ..
(أبنك يقولك يابطل .. هاتلي انتصار )
كنا نسمع صوت انفجار الطائرات في سماء حي إمبابة
والمذيع يقول أسقطنا عشرة ، إحدي عشرة ، وهكذا إلي أن وصل إلي ثلاثة وعشرين طائرة إسرائيلية ..
جاء المساء ، وكنا قد قمنا بطلاء زجاج النوافذ والبلكونات بطلاء أزرق ولكن ذلك لم يكن كافياً ألايصرخ فينا رجال الدفاع المدني بصفاراتهم وبأصواتهم الجهورية
"ـ طفوا النووووور. ..
أنتوا ياللي ف التالت .. طفوا النور .."
جاء أبي في المساء من وردية عمل ذائغ العينين مطبق الوجه لايطيق أن يحدثه أحد ، جلس علي الكنبة التي كانت في صالة بيتنا الصغير المكون من غرفة نوم وصالة ومطبخ وحمام ،
أعدت والدتي له الطعام ..
رفض أن يتناوله ، وأشار لها برفع صحون الطعام من علي الطبلية ، في حين هي تتوسل إليه أن يحكي لها ماحدث له وحول وجهه إلي كل هذا التقطيب والإطراق في الأرض كأن عزيز له قد مات فرد والدي أن إسرائيل ضربت مطاراتنا وطائرتنا وأن زملائه الذين يعملون بالقرب من صحراء الدراسة حكوا له كيف تساقطت طائراتنا علي الأرض ..
وضع أبي رأسه بين كفيه
مخاطباً أمي الريفية البسيطة .. بصوت يهمس خوفاً
ـ إحنا داخلين علي واكسه كبيره ..
شهقت أمي ..فانطلقت أنا نحوه هاتفاً
ـ زمايلك كدابين .. إحنا وقعنا تلاته وعشرين طياره لغاية دلوقتي
رمقني أبي من بين كفيه اللتان تغطيان صدغيه ..
ـ إتلهي يااهبل .. روح شوفلك لعبه إلعبها ..
انت مش فاهم حاجه خالص ..
لا اتذكر كيف مضي الوقت بعد ذلك سوي التنوع مابين أصوات صافرات الإنذار ، وهتاف رجال الدفاع المدني الشهير
ـ طفوا النوووووور
وأصوات الغارات والطلقات الكاشفة كرعد الشتاء تلك التي كانت تغطي سماء ليل إمبابة المطفأ الأنوار من آن لآخر ..
إلي أن أعلن المذياع عن أن الرئيس جمال عبد الناصر سيلقي خطاباً ، أنزل أبي الراديو من موضعه الأصلي ووضعه في الصالة علي طبلية الطعام فتحلقنا بالقرب من الراديو وحضر من الجيران من كان بلامذياع أو من تعرض مذياعه للتلف ..
أعلنت كلمات عبد الناصر الموقف بوضوح لأول مرة بعكس ماكان يعلنه المذيع أحمد سعيد أو المذيع صالح مهران أو المذيعة جمالات الزياتي طوال الوقت ..
الجميع بدأ بالإنخراط في البكاء ،
الجميع انغمس في الحزن الذي أصبح مشاعاً ..
حتي نحن الصغار الذين لم يتشكل كامل وعينا بعد ولم نكن وصلنا إلي قدر من الفهم كي نستوعب الحدث ..
غير أننا كنا قد أدركنا وقتها أن كل آمالنا وكل مظاهر ومشاعر زهونا بالوطن قد تعرضت لضربة قاصمة تمنينا أن تكون كابوساً طرأ علينا أثناء النوم وسنفيق منه بمجرد أن نستيقظ ننهض إلي حيث ترديد أناشيد عبد الوهاب الوطنية في طابور الصباح ..
نقلا عن الحوارالمتمدن