منى أبوسنة
ينتمى فيروس كورونا- واسمه العلمى كوفيد 19- إلى ما يُسمى مجموعة الفيروسات التاجية؛ لأنها تشبه فى تكوينها التاج الذى يضعه الملوك على رؤوسهم، ومجازًا يعبر لفظ «تاج» عن معنى القمة والعظمة والسلطة والجاه، كما يعبر فعل التتويج عن الوصول إلى قمة مرحلة معينة.
والسؤال الذى يثيره هذا المقال هو:
لماذا يعبر فيروس كورونا عن قمة النظام العالمى القائم؟.. وهل تعبر القمة فى هذا السياق عن مرحلة إيجابية أم سلبية فى مسار ذلك النظام العالمى القائم؟.
الإجابة عن هذا السؤال تستلزم العودة إلى الجذور التاريخية للنظام العالمى القائم، وهى تتحدد بالعام 1648، وهو العام الذى وُقِعت فيه اتفاقية السلام المُسماة باتفاقية وستفاليا، نسبةً إلى المدينة الألمانية التى شهدت التوقيع، وقد جاءت هذه الاتفاقية على إثر حروب دينية دامية اجتاحت مدن أوروبا برمتها لمدة ثلاثين عامًا، بين سلطة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والمذهب البروتستانتى الصاعد، بدأت فى عام 1618، وانتهت بالاتفاقية.
وقد أسست اتفاقية وستفاليا للسلام لنظام عالمى جديد تنحصر فيه السلطة فى يد الدولة، كما وضعت مبادئ تشتمل على: أولًا، دول مُرسمة الحدود والتى يقع ضمنها كل ما له قيمة من ثروات وموارد طبيعية. ثانيًا، وجود سلطة علمانية واحدة فى كل إقليم، فتمثله خارج حدوده، وثالثًا، ليس ثمة سلطة فوق الدولة. ومن هنا نشأ لفظ الدولة الأمة Nation State، وقد استمر العمل بهذا النظام حتى قيام الحرب العالمية الأولى، وتجاوزها إلى الحرب العالمية الثانية، التى أدت إلى تقسيمات جديدة تخضع للقطبين العالميين (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى سابقًا)، وهو ما أدى إلى نشوب ما يسمى بالحرب الباردة بين المعسكرين الغربى الرأسمالى والشرقى الاشتراكى، وقد كان ذلك إيذانًا بانتهاء اتفاقية وستفاليا. بيد أنه مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط حائط برلين فى نوفمبر 1991 وسقوط الاتحاد السوفيتى فى ديسمبر من نفس العام، لم يتمخض عن كل ذلك إعادة ترتيب أوضاع الدول الأوروبية الشرقية والغربية فحسب، ولكن كذلك إعادة توزيع للسلطة بين الدول والأسواق والمجتمع المدنى على نحو جديد وغير مسبوق. وقد سجلت إحصائيات الأمم المتحدة نشوب صراعات إقليمية مسلحة، يبلغ عددها قرابة مائة صراع تحديدًا فى إفريقيا وآسيا أو ما كان يُعرف بدول العالم الثالث. وبالإضافة إلى تلك المتغيرات الدرامية التى أدت إلى ضعف سلطة الدولة لصالح الأفراد بدعوى الليبرالية المحدثة وما صاحبها من خصخصة لممتلكات الدولة، فقد تمثل العامل الأكبر للتغيير على مستوى الساحة الدولية فى ظهور لاعبين جدد لا يخضعون لسلطة الدولة.
والسؤال هنا: من هم اللاعبون الجدد، وما علاقاتهم بالنظام العالمى فى العصر السيبرانى؟.. أى عصر التكنولوجيا المتقدمة.
ينتمى اللاعبون الجدد إلى فريقين، يمثل الفريقان ظاهرتين كوكبيتين متوائمتين، وهما على حد تعريف د/ مراد وهبة ظاهرتا الرأسمالية الطفيلية والأصولية الدينية، واللتان أدتا إلى ازدهار جرائم عابرة للقارات، والتى تُقدر بنحو 750 مليار دولار سنويا، منها 500 مليار دولار لتجارة المخدرات فقط، وذلك وفقا لما ذكرته الناشطة الحقوقية الأمريكية جيسيكا ماثيوز فى كتابها بعنوان: «تحول القوة واللاعبون خارج نسق الدولة» 1997. وقد نشطت ظاهرتا الرأسمالية الطفيلية والأصولية الدينية فى ظل تقدم الثورة المعلوماتية التى أحدثت تلاحمًا عضويًا بين الظاهرتين، وكونتا شبكات على مستوى الكوكب تتكون من أفراد وجماعات تمارس الإرهاب المسلح بدعم من أموال الأنشطة الطفيلية مثل تجارة السلاح والمخدرات وغسل الأموال وتجارة الرقيق الأبيض وتجارة الأعضاء البشرية، هذا بالإضافة إلى التجارة فى سوق الأموال، ونتج عن كل ذلك اختلال فى مفهوم جوهرى للنظام الاقتصادى السياسى الرأسمالى وهو أن العمل المنتج هو السبيل إلى بناء الثروة، فبدلًا من العمل والإنتاج سواء كان صناعيًا أو زراعيًا، تحول مفهوم الثروة إلى التجارة فى الأموال بصفتها الغاية وليست الوسيلة، وقد عبر عن هذا التشويه والانحراف رجل الأعمال الشهير والمفكر الاقتصادى جورج سوروس فى كتابه بعنوان «أزمة الرأسمالية الكوكبية» وعنوانه الجانبى «المجتمع المفتوح فى خطر»، فقد قام بتوصيف تلك المرحلة من التحول فى النظام الرأسمالى بأنها تمثل خطرا يهدد النظام برمته.
وقد أصاب هذا التحول، أو بالأحرى الانحراف، النظام الرأسمالى فى مقتل، وأعنى بذلك الجانب الإنسانى أو بالأدق الجانب الاجتماعى الذى يتمثل فيما توفره الدولة للمواطنين من تأمينات اجتماعية ورعاية طبية وأجور البطالة، وكان من شأن تلك الإجراءات إحداث التوازن بين طبقات المجتمع وحمايته من أى تمرد من شأنه أن يزعزع الاستقرار، بيد أن تصاعد ظاهرة الرأسمالية الطفيلية فى تلاحمها مع الأصولية الدينية وما تنطوى عليه من إرهاب عسكرى أدى إلى إحداث هزة فى هذا التوازن، بل قلب الموازين، فازداد الأثرياء ثراءً وازداد الفقراء فقرًا، وتزايدت ظاهرة البطالة والتشرد فى جميع الدول الرأسمالية فانهار نظام التأمينات الطبية والاجتماعية، وكان هذا الانهيار فى صالح المزيد من تراكم الثروات الطفيلية من جهة، والمزيد من ظاهرة الفقر والبطالة والتشرد وتدهور البيئة إلى حد إفسادها وتدميرها. فشاهدنا القصور شبه الملكية والحدائق الغناء التى يسكنها الأثرياء جنبا إلى جنب الفقراء الذين يسكنون الجحور تحت الأرض وأولاد الشوارع الذين يفترشون الأرصفة تحت الكبارى فى كل دول العالم بلا استثناء. ولم يلفت ذلك التناقض الصارخ نظر أى من رجال الدولة أو المواطن الذى يعانى من ذلك التناقض ولا حتى النخبة المثقفة.
وفجأة، وفى غفلة من الزمن، ودون سابق إنذار للنظام العالمى القائم، انقض المارد المسمى كورونا وهو فيروس متناهى الصغر فى الحجم وفائق القوة فى الفتك بالبشر. ووقف النظام العالمى القائم- وعلى قمته الدول التى تتزعم العالم اقتصاديا وسياسيا- مكتوفى الأيدى عاجزا عن التصدى لهذا المارد القزم. ولن تفلح حتى الآن كل الجهود العلمية والبحثية فى إيجاد السلاح المضاد.
فإذا كانت ظاهرتا الرأسمالية الطفيلية والأصولية الدينية تمثلان أعلى مراحل النظام العالمى القائم فإن فيروس كورونا يعتبر تتويجا لهذا النظام وبذلك يقف على قمته. والجدير بالتنويه أن هذا الوباء الكوكبى ليس بالجديد، فإن تاريخ الحضارة يشهد على أن الطفرات التاريخية تسبقها أزمات تؤدى إلى كوارث مثل الحروب عابرة القارات، والأوبئة.
والسؤال الآن: هل نحن بصدد طفرة حضارية تتجاوز الأوبئة الثلاثة: الرأسمالية الطفيلية، والأصولية الدينية، والكورونا، بحيث يعدل النظام الرأسمالى من مساره لكى يكون أكثر إنسانية أكثر رحمة بالبشر والبيئة؟.. أتوقع أن يجيب التاريخ عن هذا السؤال إما سلبا أو إيجابا فى المستقبل القريب. إن ثمة إرهاصات من الممكن اعتبارها شواهد على ذلك التغيير المرتقب وهى تتمثل فى استعادة سلطة الدولة من خلال تفعيل سلطات الرئيس كما فعل دونالد ترامب فى أمريكا، وهى سلطات مطلقة للرئيس وتمنح الغلبة للجيش كما يحدث فى حالات الحروب الاستثنائية، وذلك من أجل احتواء الجائحة والسيطرة عليها. هذا من جانب، ومن جانب آخر اتخذت الدولة إجراءات حماية للمواطنين لكى تنقذهم من أزمة عدم توافر الطعام بأن رصدت 19 مليار دولار تحت ما يسمى بالأمن الغذائى، وذلك لحماية المواطنين من استغلال شركات القطاع الخاص فى ظل الجائحة، فقامت الدولة بتوزيع الطعام على المواطنين مجانا. وفى تقديرى، أن من شأن تلك الإجراءات أن تحد من هيمنة الرأسمالية الطفيلية ولو إلى حين انتهاء جائحة كورونا.
نقلا عن المصرى اليوم