مراد وهبة
عنوان هذا المقال له قصة جديرة بأن تُروى. ففى نوفمبر من عام 1974 دعتنى مؤسسة «دار الفن والأدب» ببيروت للمشاركة فى ندوة محدودة للغاية. وكانت تشرف على إدارة هذه المؤسسة سيدة متميزة هى الراحلة جانين روبيز، كانت قد كرست حياتها لتدعيم العلمانية فى لبنان.
كان عنوان الندوة «الحضارة والبترول» اشترك فيها معى اثنان مرموقان: الشاعر المبدع أدونيس والأسقف جورج خضر المسؤول عن إيبارشية جبل لبنان. عندما وصلت إلى مطار بيروت كان فى استقبالى ذلك الأسقف.
وفى الطريق إلى الفندق رأيت بيروت للمرة الأولى فلفتت انتباهى الهوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء: أبراج عالية وبجوارها غسيل منشور على حبل يقترب من تراب الأرض. وأضفت إليها هوة أخرى وهى الهوة الطائفية. ومن الهوتين وجهت إليه سؤالاً: هل ثمة احتمال فى نشوب ثورة اجتماعية أو فتنة طائفية؟ أجاب بلا تردد: هذا الاحتمال أمر محال. قلت: لماذا؟ قال: بسبب التعايش السلمى. أما أنا فقلت: هذا الاحتمال وارد لأن التعايش الطائفى ينطوى على نقيضه وهو الفتنة الطائفية. وفى عام 1975، أى بعد زيارتى بعام، نشبت الحرب الأهلية التى استمرت خمسة عشر عاما.
وإثر انتهاء الندوة كان من المقرر أن أجرى حواراً مع اثنين من القيادات الدينية: الإمام موسى الصدر، رئيس المجلس الشيعى الأعلى ومؤسس «هيئة نصرة الجنوب» والمقصود جنوب لبنان، والمطران غريغوار حداد، المشكوك فى عقيدته الدينية من قبل الفاتيكان، وبينهما علاقات سرية وهمزة الوصل جانين روبيز. وفى 31 أغسطس 1978 تمت تصفية الإمام الصدر بأمر من الخمينى وبتنفيذ من القذافى. وإثر ذلك تأسس «حزب الله» بقيادة حسن نصر الله الشيعى الأصولى فى جنوب لبنان.
وفى 4 مارس من عام 2005 كرمتنى «الحركة الثقافية- أنطالياس» بلبنان، وهى مؤسسة علمانية تنشد الانفتاح على المحيط العربى والعالمى. ولكن أثناء وجودى بلبنان شاهدت حول الجامع الشامخ الذى بناه الزعيم رفيق الحريرى ساحتين: ساحة الشهداء وساحة رياض الصلح. فى الساحة الأولى تجمع مئات الآلاف من الموارنة والدروز والسُنة، وكانت الهتافات تطالب بالبحث عن الحقيقة فى اغتيال الحريرى فى 14 فبراير 2005 مع تأييد قرار مجلس الأمن رقم 1559 والخاص بضرورة القبض على الجناة. وفى الساحة الثانية كانت الهتافات دائرة حول رفض القرار مع تقديم الشكر والعرفان لسوريا.
وإذا كانت الساحة الثانية ساحة أصولية، فالساحة الأولى كانت هلامية الهوية، أى لا يمكن وصفها بأنها علمانية. وإذا أضفت ما شاهدته فى لبنان فى عام 1974 إلى ما شاهدته فيها فى عام 2005، أى بعد أربعين عاماً، يمكنك الوصول إلى هذه النتيجة وهى أن الفوضى الحادثة فى لبنان فى عام 2020 من مظاهرات عارمة وانهيار اقتصادى وتصادمات حزبية بلا معنى تدل على تدهور الإرهاصات العلمانية المتمثلة فى نفر من القيادات الدينية وفى الحركة الثقافية- أنطلياس فى مواجهة تصاعد التيار الأصولى المتمثل فى حزب الله والملتزم بإيران. ومن هنا يحق لنا القول إن غياب العلمانية يعنى غرق لبنان وليس من منقذ، كما يعنى أيضاً غرق سوريا ولا منقذ.
نقلا عن المصرى اليوم