فاطمة ناعوت
استكمالاً للحديث حول الأمِّ الجميلة التى أحبَّتها الدنيا بأسرها، ويتنكّرُ لها كثيرٌ من أبنائها؛ أحدِّثكم اليوم عن كائن صغير ذكىّ اجتمع العالمُ على حبِّه ومتابعته بشغف وقراءة حكاياه ومغامراته. هذا الكائن اللطيف يحبُّ تلك الأمَّ الجميلةَ المنسية، ربما أكثرَ مما يحبُّها أبناؤها الناكرين لها. الأمُّ الساحرة، هى لسانُنا الذى نتحدثُ به كلَّ يوم وتعلّمناه سنواتٍ طوالا على مقاعد الدرس، وهى القلمُ الذى نكتبُ به خطاباتنا وننجزُ أعمالنا ونقرأ به قصائد العشق، ونناجى به اللهَ والوطن. لكننا بعدُ لم نعرف سرَّ ذلك اللسان العظيم معرفةَ الابن لأمّه. نُخطئُ ونتلعثمُ ونتعثّر. ومع هذا التعثُّر، نفقدُ متعةَ ارتشاف الشهد وتذوّق رحيق الحلاوة الُمصفّاة الذى يقطرُ من بين ثنايا شفاه تلك الأمِّ الساحرة. وأما الكائنُ اللطيفُ الذكى، فهو ميكى أو عم دهب أو بطوط أو محظوظ أو الجدّة بطة أو زيزى أو ميمى أو بندق أو عبقرينو أو حتى أفراد عصابة القناع الأسود الذين يخفقون دائمًا فى إتمام عمليات السطو على البنوك.
اِفتحْ أىَّ عدد من أعداد مجلة «ميكى» التى لا حصر لها منذ عام ١٩٥٩ وحتى اليوم، وحاولْ أن تجد فى حوارات «بطوط» أو «عم دهب» أو «الجدة بطّة» أو «ميكى وميمى وبندق وزيزى ولصوص مدينة البط أو حتى أطفال البط الصغار.... أى غلطة نحوية أو صرفية أو إملائية. وسأمنحُك ألفَ جنيه مصرى مقابل كلّ هفوة نحوية أو هِنَة صرفية أو همزة زائدة أو مفقودة، أو فى غير موضعها. شىء عجيبٌ ومشرِّف يستحقُّ التأمل. يحدث هذا فى مقابل العثرات اللغوية اليومية الهائلة التى يقع فيها الإعلاميون على الشاشات، وكذلك الجرائدُ والمجلاتُ، الحكومية والمستقلة، والكتب والمطبوعات والمنشورات، والمكاتبات الرسمية. بل كذلك نجد الأخطاء اللغوية فى بطاقات الهُوية: الرقم القومى. فأنا مثلا كافحتُ سنوات كثيرة، منذ أصدرتُ أول بطاقة شخصية لى، فى وضع نقطتين فوق الهاء فى اسمى: (فاطمة)، وباءت كل محاولاتى بالفشل، ومازال اسمى فى بطاقتى (فاطمه)! وهو لغويًّا يعنى: (الفاعل الذى فَطَمَ مفعولاً به)؛ الذى (فَطَمَه) شخصٌ ما! اسمٌ مضحكٌ يصف ذكرًا فطَمَه ذكرٌ آخر، فأصبح: (فاطِمَهُ)! بينما أصلُ الاسم (فاطمةٌ): «المرأة الولودُ التى تفطِم أطفالَها». كذلك الإعلانات التليفزيونية وإعلانات الشوارع والمحال التجارية التى تتبارى فيما بينها فى إهانة أمِّنا: اللغة العربية الجميلة. فتجد يافطة تقول: «اشترى واحدة تحصل على الثانية مجانًا»، فإن حدث وأخبرت المسؤول أن يحذف حرف الياء لتُصبح: «اشترِ»، سخرَ منك ورماك بالجهل.
أتساءل: هل تشرف شركة «والت ديزنى» الأمريكية على سلامة اللغة العربية فى مطبوعتها المصرية التى ظهرت فى مصر عام ١٩٥٩ على يد «دار الهلال» المصرية، مثلما تُشرف على جودة الطباعة؟ ذاك أن مجلة ميكى المصرية لم تتوقف عن الصدور قرابة نصف القرن، إلا عامًا واحدًا فقط هو ٢٠٠٣، حينما اعترضت شركة «والت ديزنى» على رداءة الطباعة فى مصر، وفسخت العقد. ثم عادت للصدور العام التالى على النحو الذى يُرضى الشركة الأمريكية ويليق باسمها العريق الأشهر، ويليق بالقارئ المصرى الذى ينبغى له أن يكون مثقفًا، وهو ابن أعرق حضارات الأرض، أى: «صانع ثقافة»، وليس فقط: «مستهلك ثقافة». وتطبعها الآن دار «نهضة مصر» العريقة. فهل تُرى تتابع الشركة العالمية سلامة اللغة العربية على ألسن شخصيات الكاريكاتور؛ حتى تخرج لنا على هذا النحو البهىّ الأكمل؟ ربما. لكن الحتمىّ أن القائمين على هذا العمل المحترم، قديمًا وحديثًا، قومٌ محترمون، يحترمون القارئ، وإن كان طفلا، ويحترمون اللغة العربية التى احترمها المبدعون الكبار واحترمها القرآنُ الكريم.
هل أناشدُ د. «طارق شوقى»، وزير التربية والتعليم العظيم، وضع مجلة ميكى فى المناهج الابتدائية؛ حتى يتعلَّم الصغارُ قواعدَ اللغة العربية بشكل عملى خفيف ومُحبَّب؟ على الأقل أناشده توفير نسخ من المجلة فى مكتبات المدارس وتعويد الأطفال على قراءتها لينضبط لسانهم العربى.
شكرًا لكل القائمين على هذا العمل العريق المحترم: «مجلة ميكى»، وشكرًا لكل من يحترم لغتنا العربية الساحرة، التى لو عرف المنكرون لها حلاوة مذاقها لنهلوا من جداولها الرقراقة دون توقّف ولا شبع.
فى مقال قادم سوف أحكى لكم موقفًا طريفًا حدث معى حين قرأتُ يافطة محل لبيع الزهور فى شارع «دير الملاك» مكتوبًا عليها: «عبدة الزهور الجميلة». ودار حوار خفيف الظل بينى وبين صاحب المحل، حين أخطأ فى حرف، وأخذتُه أنا على محمل الصحّة والسلامة اللغوية. «أنا البحرُ فى أحشائه الدُّرُّ كامنٌ/ فهل ساءلوا الغوّاصَ عن صدفاتى؟».
«الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم