فاطمة ناعوت
فى سبتمبر ٢٠١٠، أرسل لى مواطن اسمُه «سامى يونان» سؤالا سأله أطفاُله الثلاثة: (بابا ليه الحرامى متحبسش؟!) وعجز الأبُ عن الإجابة فطلبها منى ليجيبَ أطفالَه. وعجزتُ بدورى عن الإجابة فرفعتُ السؤالَ فى مقال وبلاغ إلى السيد «حبيب العادلى» وزير الداخلية آنذاك، وتمت الإجابة عمليًّا. علّ أولئك الأطفالَ اليومَ فى سنّ الشباب يقرأون مقالى هذا؛ وقد تعلّموا الدرس.
الحكايةُ كما رواها الأبُ: (اتصل به الجيرانُ فى التاسعة صباحًا، وهو فى عمله، ليخبروه بأنهم أمسكوا لصًّا يحاول سرقة منزله. أسرع الرجلُ إلى بيته ليجد الجيرانَ محتشدين. أخبروه أنهم سمعوا صراخَ زوجته وأطفاله فأسرعوا، وطاردوا اللص فحاول الهروب وقفز من شباك الصالة إلى منور العمارة. وصل أمين شرطة وقبض على اللصّ الذى أصابته خدوشٌ جرّاء السقوط فى المنور. فى قسم الشرطة، سأل المأمورُ المجنى عليه: (أنت ضربته؟! تاخد حقك بالقانون مش بالضرب!)، فأقسم الرجلُ أنه لم يفعل، وشهد الجيرانُ بسقوط اللصّ فى المنور قبل وصول الرجل من عمله. وهنا، قال المأمور إنه مضطر إلى تحويل السارق والمسروق إلى نيابة أمن الدولة!، لييييه؟، لأن الأول مسلمٌ والثانى مسيحىٌّ! ثم أردف المأمورُ، بإيماءة العالم بطبائع الأمور: (ودى طبعًا، فيها سين وجيم!). قال المجنىُّ عليه: (والعمل يا فندم؟) قال المأمور: (نعمل محضر صُلح، وعدم تعرُّض منك ولا منه، ويا دار ما دخلك شر، وتروحوا لحال سبيلكم. وبعدين لازم تاخد الحرامى وتعالجه، لأنه ممكن يعمل لك محضر تعدى، وتقرير طبى، وشغلااااانة.). وبالفعل أخذ «المسروقُ» السارقَ إلى صيدلية قريبة وعالج خدوشَه، ودفع الرجل مصاريفَ علاج اللصّ، واسترضاه لكى يضمن عدم رفعه قضية «تحرّش» طائفى عليه! وأُقفِلَ المحضر فى ساعته وتاريخه، برقم ١٨ح، بتاريخ ٢٠١٠/٨/٢٣. الطريفُ أن المحضر خرج بصياغة: «عدم تعرّض»، وليس: «محاولة سرقة»، بعد اعتذار اللصّ، وتعهده بعدم إدراج «هذا المسكن» فى خُططه اللصوصية القادمة! انتهت الحكاية فى قسم البوليس؛ لكنها لم تنته فى بيت الرجل. فى المساء سأل الأطفالُ أباهم: (هو ليه الحرامى متحبسش يا بابا؟) وعجز الأبُ عن الإجابة. فأرسل يسألنى فى إيميل: (هو صحيح ليه الحرامى متحبسش يا أستاذة فاطمة؟ هل أختارُ دين الحرامى حتى أضمن حقوقى فى وطنى، ولا أبدو ضعيفًا أمام أطفالى، ويسألوننى سؤالا أعجز عن إجابته؟ من فضلك جاوبينى يا أستاذة؟!) وعجزتُ عن الإجابة، فحوّلتُ السؤالَ إلى وزير الداخلية آنذاك: «السيد حبيب العادلى» فى مقال عنوانه: (بلاغ إلى السيد حبيب العادلى: سأختار دين الحرامى!) نُشر فى جريدة «اليوم السابع» بتاريخ ٢١ سبتمبر ٢٠١٠. وللأمانة؛ اتصل بى يومها العميد «هانى عبد اللطيف»، مدير المكتب الإعلامى بوزارة الداخلية، وسألنى عن رقم هاتف الأستاذ «سامى يونان» ووعد بأنه سيأخذ حقَّه بالقانون. وبالفعل نال المواطن حقَّه، فكتبتُ بعدئذ مقالا فى «اليوم السابع» بتاريخ: ٥ أكتوبر ٢٠١٠، أشكرُ فيه وزارة الداخلية.
كان همّى فى كل هذا هو ألا يفقدَ أولئك الأطفالُ، الذين صاروا شبابًا اليوم، بوصلةَ الحقِّ فى وطنهم، وألا تتعثّرَ خطواتُهم وهم يرون المجرمَ مستقويًّا حرًّا طليقًا، والمجنىّ عليه خائفًا مهزوزًا مغلوبًا على أمره.
وهذا هو الدرسُ عينُه الذى أراد الفنانُ «شريف منير» أن يعطيه لبناته الجميلات، ولنا. نشر «شريف منير» على منصّة «انستجرام» صورة جميلة بريئة لكريماته: «فريدة وكاميليا»، فكتب بعضُ الرعاع تعليقاتٍ قذرةً لا تليقُ إلا بهم وبسفالتهم. انزعجت أسرةُ «شريف منير» فقام بحذف الصورة خوفًا على عيون زوجته وبناته من قراءة البذاءات فى حقّهن. ثم تدارك خطأه (حذف الصورة)، وأعاد نشرَها متوعدًا أىّ سافل بالملاحقة القانونية والحبس. ذاك هو الدرس: «عدم التفريط فى الحق، وعدم الرضوخ لموجة الاستقواء والظلم مهما كانت عالية عاتية»، فى مجتمع مازال يخطو خطواته الأولى نحو التنوير والمدنية والتحضر. أقول هذا بكامل الدهشة والحَزَن عن بلدى الذى صنع الحضارة والتنوير والمدنية قبل آلاف السنين، وعلّم العالمَ بأسره فى فجر التاريخ أُسسَ التحضُّر. لكن سمومَ الظلامية والنفاق الدينى والتديّن الشكلى اكتسحت بلادنا منذ السبعينيات على يد ظلاميين قتلوا المدنية والتنوير وجعلوا من البذاءة والتطاول والتكفير قانونًا عُرفيًّا يتحكم فينا، ويظلم. ومازلنا حتى اليوم نحاول «تنظيف» المجتمع من دنسهم الذى سمّموا به كل شىء جميل وشوّهوا الدينَ ذاته، فألصقوا به زورًا لسانَ عنف وبذاءة ونفاق. تحية احترام للفنان الجسور «شريف منير»، وكلنا معك. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم