عاطف بشاي
فى نهاية السبعينيات من القرن الماضى، شاركت الأستاذ «ممدوح الليثى» فى كتابة سيناريو وحوار الفيلم التليفزيونى «مايوه بنت الأسطى محمود»، عن قصة لـ«إحسان عبدالقدوس»، قام ببطولته «محمد رضا» والوجه الجديد فى ذلك الوقت «يسرا»، وتدور أحداثه حول أسطى بمصنع، خرج إلى المعاش، ويعيش مع أسرته بشقة قديمة بحى شعبى.. ويبدو رجلاً متحفظاً يراعى تقاليد وعادات طبقته.. وهناك شاب يعمل بالمصنع يتوق للارتباط بابنته «يسرا»، فيلح عليه فى الانضمام هو وأسرته لرحلة المصنع إلى المصيف لمدة أسبوع بالإسكندرية ليتسنى له التواصل مع ابنته.. يوافق الأسطى، بعد تردد، وعلى شاطئ البحر يتقرب الشاب إلى ابنته، وينفرد بها خلسة، ويبادلها كلمات الحب والهيام بعيداً عن رقابة الأب.. ويحرضها على ارتداء مايوه لتشاركه الاستمتاع بالسباحة فى البحر.. الابنة تلح على الأب ليشترى لها مايوهاً.. وتشاركها الإلحاح والضغط أمها.. يرفض بشدة.. لكنه مع تواصل توسلات الأسرة يوافق فى النهاية.. كما أنه يتخلى عن وقاره المصطنع، ويرتدى هو أيضاً مايوهاً، ويشاركهم جميعاً الاستمتاع بالسباحة. والقصة التى كتبها «إحسان عبدالقدوس»، ومن ثم السيناريو المأخوذ عنها، لم يتطرقا مطلقاً فى السياق والتفاصيل إلى أن يفسرا تزمت الأب ورفضه شراء مايوه لابنته تفسيراً له علاقة بنوايا دينية.. ولا مرتبطا بمفهوم ثقافة الحلال والحرام، ولكن تعنته جاء فى إطار اجتماعى له علاقة بتقاليد وأعراف طبقته.. وجاءت القصة ضمن مشروع إحسان التنويرى.. للكشف عن المسكوت عنه خارج جدران السجون الاجتماعية والمعتقلات العاطفية.. والبيئة المحافظة التى تحتمى بمفاهيم زائفة عن الشرف الذى تحصره فى جسد المرأة.. إن المرأة الجديدة التى حاول «إحسان» أن يطلقها خارج هذا الإطار هى المرأة التى انتصرت لوجودها الإيجابى والإنسانى خارج الأسوار، وبالتالى فالرؤية الفكرية التى تشتمل عليها رواياته تنطلق من صراع الإرادات فى نفس الإنسان بين الأفكار الحرة والبيئة المحافظة.. من الذات الحرة ومدى تمردها على ثوابت، يعيد صياغتها حتى يتمكن الإنسان الجديد من ممارسة الحياة كإنسان سوى متوازن يرفض أن يختزل وجوده فى مناطق جامدة ومعتمة تزهق روحه الخلاقة.. وتجهض أحلامه المبدعة.. وتطيح بصحته النفسية..
لكن يدور الزمن دورته.. ونصل إلى زماننا المعاصر البائس.. ومنذ عدة سنوات ينقض المتطوعون.. ومندوبو هيئة «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر».. وأعضاء منظمات التراجع الحضارى على الممثلة «نيللى كريم»، وينهالون عليها بالتقريع الغليظ والاتهامات المنحطة المتصلة بانعدام الأخلاق المرعية والشرف المصون، حيث استباحت تقاليد السلف الصالح وتجاسرت وكشفت عن عورات الدرة المكنونة بارتداء البكينى على صفحتها الخاصة بالتواصل الاجتماعى.. وهى بتلك الفعلة الشنعاء تسعى إلى هدم ثوابت الردة التى نعيش فى كنفها منذ اجتياح الهبة الوهابية للشارع المصرى.. وهى بذلك تشيع الدعوة إلى الفحش والفجور، وتهدد جهود الأتقياء فى إرساء دعائم الدولة الدينية الوطيدة.. وتبشر بعودة زمن الضلال والغواية.. ذلك الذى نطلق عليه.. «الزمن الجميل».
تذكرت ما سبق وأنا أتابع تلك الضجة التى أثيرت نتيجة الاعتداء المنحط من قبل بعض المارقين على حسابى صفحتى كريمتى الفنان «شريف منير» ونشر صورهما داخل المنزل، مصحوبة بالإساءة- من خلال تعليقاتهم الوضيعة- إلى كرامة وشرف الفنان وابنتيه.. كما تابعت بيان الفنان الغاضب رداً على تلك الإهانة، والذى تضمن توعده بملاحقة الجناة، بعد تقديمه بلاغا إلى النائب العام ومطالب مؤيديه بالتقدم بالبلاغات المناهضة حتى ينال المعتدون جزاء ما اقترفوه.. وقد وصفهم بانعدام «الأخلاق» و«سوء التربية»..
الحقيقة أن توصيف الواقعة بكونها نوعاً من التنمر، ومن ثم حبسها تحت عنوان تدنى الأخلاق، هو توصيف خاطئ يحصر الواقعة، التى تمثل ردة حضارية مخزية، فى إطار شخصى وانحراف محدود لبعض الرعاع من المشاغبين «الصيع اللى ماتربوش»، وهذا تبسيط مخل وتصور سطحى، والحقيقة أنهم سنابل أجيال تتواتر وتتكاثر من فقهاء فرض الوصاية ودعاة الظلام وكهان ثقافة الحلال والحرام.. والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، أصحاب أوراق التكفير الصفراء وكتب التحريم والمصادرة.. وارتداء قشرة العصر، بينما الروح جاهلية والنفس همجية والأردية صحراوية.. إن ما يدعو إلى الرثاء هو ذلك التيار الجارف، الذى أصبح ظاهرة تمس تغيرات شائهة شملت الشخصية المصرية، والتى تطرفت فى الاعتداء السافر على حرية وحقوق الإنسان بدعوى المحافظة على مكارم الأخلاق وثوابت الفضائل.. والتى تتضمن كراهية المرأة، والمجاهرة باعتبارها عورة من قمة رأسها حتى أخمص قدميها.. وليست لها وظيفة سوى أنها وعاء للجنس والإنجاب..
الأزمة الحقيقية تكمن فى أن الشارع المصرى أصبح شارعاً تحكمه نزعة سلفية وشيوع لتدين شكلى ومرجعية متشددة ومزاج رجعى متخلف وكئيب يسيطر على أفكار الناس وسلوكياتهم وكافة أمور حياتهم الاجتماعية.. فقد نصب كل إنسان نفسه أميناً عاماً للأخلاق المرعية وحارساً عتيداً لحماية حمى الفضيلة، التى تبكى وتنتحب جراء انتهاكها بارتداء الفتيات والسيدات الملابس غير اللائقة من وجهة نظرهم، وبناء على فتاوى سامة يشيعها أعداء الحياة وسلاطين التحريم، الذين يفرضون وصايتهم باسم الدين.. والدين منهم براء..
إنها ردة حضارية.. وليست تنمر قلة..
نقلا عن المصرى اليوم