فاطمة ناعوت
رجاءً رجاءً، قبل التسرُّع باتهامى بالدعوة إلى عبادة الزهور، معاذَ الله أن يُشرَك في عبادته شىءٌ، وقبل الهرولة برفع قضايا الحِسبة، أدعوكَ أيها الُمتنمِّرُ المتربِّصُ المُزايدُ على الناس في إيمانهم، أن تتمهّل، وتُكمِلَ قراءة المقال. فلعلَّه ينتهى بابتسامةِ التأمل بدلًا من تكشيرة الملاحقة والعداء.
خلال سلسلة مقالاتى حول اللغة العربية «الآيلة للسقوط» على ألسننا، نحن الناطقين بها، حدثتكم عن اسمى المكتوب خطأ في بطاقتى القومية: «فاطمه»، بدلا من صحيحه: «فاطمة». (فاطمه) بالهاء، هو الذَّكرُ الذي «فَطَمَه» ذَكرٌ آخر، فأصبح: (فاطِمَهُ)! بينما أصلُ الاسم (فاطمةٌ) بالتاء المربوطة، يعنى: “المرأةُ الولودُ تفطِم أطفالَها”. تُرى أين ذهبت النقطتان فوق الهاء؟! دعونى أخبركم لأننى عثرتُ على النقطتين في شارع «دير الملاك» بحى «حدائق القبّة».,
بينما كنتُ أسير في ذلك الشارع الجميل، لمحتُ محلاًّ للزهور، مكتوبًا على يافطته: «عبدةُ الزهور الجميلة». اندهشتُ من جسارة صاحب المحل، وأعجبتنى الرمزية في نحت اسم للمحل يشيرُ إلى عُشّاق الزهور الذين يذوبون هُيامًا وغرامًا في شذاها وحسنها، حتى يكادوا يعبدونها!. استوقفنى اسم المحل الغريب، وقررتُ الدخول للحديث مع المدير لأُحيّيه على الاسم المجازى الشعرىّ الجسور، وتنبيهه إلى هِنَةٍ إملائية صغيرة. استقبلنى صاحبُ الورود بحفاوة، وقدّم لى وردةً حمراءَ مشرقة. علمتُ منه أنه جامعىٌّ افتتح هذا المحل منذ عشرين عامًا، لأنه عاشقٌ للزهور، يأسًا من انتظار القوى العاملة للعمل الحكومى بشهادته. ابتسمتُ وقلبى يرقص فرحًا بأبناء بلدى الذين يستثمرون في أوقاتهم وهواياتهم. ثم بادرتُه: (أنا فخورةٌ بك حقًّا، فأنتَ تحمل قلبَ شاعر وعقل فيلسوف! لكن خبّرنى كيف خطر هذا الاسمُ العجيبُ على بالك؟! هل قرأتَ رواية «عَبَدَة الصفر» للكاتب الفرنسى «آلان نادو»، أم عساك استلهمتَ عنوانَك من جماعة فيثاغورس الإغريقية المعروفة بجماعة: «عبدة الصفر»؟).
حدّق الرجلُ في عينيّ طويلا. ثم أومأ برأسه علامة الموافقة على كلامى. هنا اطمأن قلبى تجاهه، وانتقلتُ مباشرة إلى الخطوة التالية. جذبته من يده برفق إلى خارج المحل، ثم أشرتُ إلى اليافطة وأخبرته بشىء من الحياء: (فقط لو تحذف اللام الزائدة من كلمة «للزهور». لكى تصبحَ «الزهور»، وبهذا يستقيم المعنى الشعريّ الجميل:( «عَبَدةُ الزهورِ الجميلة».)
فجأةً.. تغيّرت ملامحُ الرجل من الوداعة والرقّة إلى الغضب والضجر. الرجل اللطيف الذي يحمل زهرةً، تحوّل في لحظة إلى أسد غاضب يزأر: (جرى إيه يا مدام؟! عَبَدَتْ مين وشِعرى مين؟! اليافطة كده صاااح: «عبده للزهور الجميلة»: آدى الزهور الجميلة (أشار إلى الزهور)، وآدى «عبده» (أشار إلى نفسه). أنا اسمى عبدووووووو!!!).
مادتِ الأرضُ بى، وهمستُ في حَزَنٍ ووهنٍ وإحباطٍ وخيبة أمل: (اسكتْ! اسكتْ بالله عليك! يا ريتك ماتكلمت! ويا ريتنى ما دخلت وكلمتك، كنت احتفظت بوهمى أحسن! بوّظت الصورة الجميلة اللى كانت في خيالى! لكن بالمناسبة يا عم عبدووووو، اسمك بالهاء مش بالتاء المربوطة، زى ما أنت كاتبها عاليافطة يا متعلّم يا بتاع المدارس.) وركضتُ فورًا إلى سيارتى، قبل أن يفتكَ بى بائعُ الورود العم عبده.
هنا عرفت أن النقطتين الهاربتين من تاء اسمى (فاطمة)، قد طارتا واستقرتا على هاء الحاج (عبده). فأصبحتُ (فاطمه)، وأصبح هو (عبدة)! آخر لخبطة! قصدى لخبطه!
والشاهدُ أن العمّ «عبدة» ليس إلا نموذجًا متكررًا بالآلاف لخريجى الجامعات المصرية، ومثلهم قادمون على الطريق سوف يتخرجون غدًا وبعد غد، لا يكتبون أسماءهم على النحو الصحيح. ومنهم من يُصبح مسؤولاً، يكتب أوراقًا رسمية حاشدة بالأخطاء الإملائية المخجلة، مثل: (القمامة/الكمامة! إنشاء الله!) فضلا عن أخطاء النحو والصرف التي لا حصر لها، ولا مبّرر. فجميعُ شعوب الأرض تتقنُ لغاتها نطقًا وكتابةً. فما بالنا لا نستمتع بلغتنا الجميلة؟!.
قبل عدة سنوات، أخذت بعض اللعب والحلوى والهدايا إلى بيت السيدة التي تنظّم منزلى، لكى أحتفل بطفليها وأبارك لهما نجاحهما الباهر في الصفين الرابع والخامس الابتدائى.
بعد الهدايا، طلبتُ منهما قراءة فقرة في جريدة. وفوجئتُ بأن التلميذين المتفوقين غير قادرين على قراءة «الحروف»! حتى من كتاب المدرسة الذي امتحنوا فيه وحصدا الدرجات النهائية! كيف نجحا؟ لأن «الرسوب» غير جائز نظرًا لزيادة عدد التلاميذ على عدد الفصول والمقاعد، فلابد أن ينجحوا لينتقلوا من صفٍّ إلى صفّ حتى يتركوا مقاعدهم لغيرهم. كأن الهدفَ هو: «الجلوسُ على مقعد التعليم»، وليس «التعليم»! آملُ أن تختفى تلك الظواهر مع الطفرة النوعية الجادّة التي يصنعها «د. طارق شوقى» وزير التعليم. «الدينُ لله.. والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصري اليوم